إرهاصات لخطاب محلي

هل المغاربة عنصريون؟ تحت هذا السؤال نشرت المجلة الشهرية المغربية تيل كيل عددها الخاص[2] عن العنصرية ضد السود في المغرب، في فبراير 2003. هذا العدد تضمن آراء مجموعة من الطلاب والتجار من افارقة جنوب الصحراء حول تجربتهم اليومية مع العنصرية في المغرب.  بعد مرور عقد من الزمن نشرت تيل كيل عددا خاصا آخر حول العنصرية حوّلت فيه عنوانها السابق إلى تصريح: المُغاربة عُنصريون[3].  لكي نفهم هذا التحوُّل، ينبغي أن نضع في الحسبان الوجه المُتغير للهجرة في المغرب، البلد الذي أصبح أرضاً للاستيطان، وليس فقط للعبور.  نظرا لعدة اعتبارات جيوسياسية، من بينها الضغوط والتمويلات الخاصة بمسالة الهجرة، اتخذت الحكومة المغربية إجراءات، خصوصا في سنة 2002، لمنع المُهاجرين المتواجدين في عدة مناطق مغربية من العبور إلى أوروبا. فأصبحت المناطق الداخلية والسواحل المتوسطية على حد سواء تتعرض لحملات رقابة شديدة تستهدف الهجرة غير الموثقة، وأصبح حضور هؤلاء المهاجرين شيئا ملموسا بشكل يومي، وليس فقط على الحدود الشمالية للبلاد[4]. وفي أكتوبر 2005، أوردت الصحافة العالمية تقارير عن غارة شرطة في مدينة الناظور الشمالية، خلفت عددا من المهاجرين ملقى بهم في الصحراء.

وصلت التوترات المتعلقة بالهجرة إلى نقطة انفجار عندما وسمت صحيفة ومجلة مغربيتين على التوالي المهاجرين بكونهم " الجراد الأسود"[5] و " الخطر الأسود"[6]. وأثارت هذه العناوين صخبا واسعا في وسائل التواصل الاجتماعي، مما دفع الدولة لمصادرة مجلة الشمال واستدعاء مديرها إلى مكتب المُدّعي العام بتهمة خطاب الكراهية .بالإضافة إلى ذلك،  أرغم الاحتجاج الذي سببه عنوان " الخطر الأسود"، رئيس تحرير محمد سلهامي،  على إصدار اعتذار شخصي على الشبكة المغربية التليفزيونية، دوزيم. بالإضافة إلى هذه المنصات، وثق المجلس الوطني لحقوق الإنسان[7]، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ومجموعات الدفاع عن حقوق المهاجرين، والتي يترأس بعضها مهاجرون جنوب ـ صحراويون. على سبيل المثال، لتجارب العنصرية بالمغرب، وانخرطت المجموعة المناهضة للعنصرية والمدافعة عن الأجانب والمهاجرين، “كادم” في حملات التوعية بخصوص حقوق المهاجرين، ووثقت في ذات الوقت انتهاكات حقوق الإنسان للاجئين والمهاجرين في تقارير حول دور الدولة ومسؤولياتها في هذه الانتهاكات. 

حملات التضامن

اظهرت مبادرات محلية عديدة الوعي المتنامي بالعنصرية ضد السود سواء كانوا مهاجرين من جنوب الصحراء أو مغاربة. تتناقض حيوية هذا النقاش الداخلي بحدة مع أسطورة الإكتشاف التي تنتجها الأبحاث المنبثقة عن أطروحات غربية حول العنصرية بالمغرب، والتي لا تركز على الحوار الذي أنتجه هذا الواقع المجتمعي بالداخل، وإنما على فرضية اكتشاف المسكوت عنه، وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال.  فعلى سبيل المثال، تعاونت المجموعة المناهضة للتمييز المسماة ”الأوراق للجميع” في عام 2014، مع كادم لتدشين الحملة الأولى من نوعها والتي استمرّت لمدة شهرين تحت شعار، “أنا ماشي عزي[8]” ;" إسمي ليس عزي"،" المؤنث عزية"، وهو إسم تحقيري يطلق على جميع السود- سواء كانوا مغاربة أو اجانب- من طرف العامة بالمغرب. بدأت الحملة في 21 مارس على الفيسبوك، حينما كانت الحكومة تُدشن المرحلة الأولى في توثيق اقامة خمسة وعشرون ألفاً من المهاجرين واللاجئين جنوب الصحراويين. على الرغم من أن هذا البرنامج الحكومي كان متميزا في المجال السياسي لشمال إفريقيا، فإنه لم يكن مفاجئا بالكامل. فقد أضرت تقارير المنظمات المحلية والدولية[9] حول إساءة معاملة المغرب للمهاجرين من جنوب الصحراء بدبلوماسية المغرب فيما يتعلق بقضية الصحراء الغربية، وهددت طموحات الدولة النيولبرالية في أفريقيا، بما في ذلك رغبة المغرب للعودة للإتحاد الأفريقي. وقد صور ستيفان جولني العضو المؤسس لجمعية كادم[10]،  حملة "إسمي ليس عزي" بوصفها فعلاً أفقياً لدعم سياسة التوثيق التي نظمتها الدولة بشكل عمودي.[11]

كانت " إسمي ليس عزي[12]" اللحظة المؤسسة لصعود خطاب الهوية العرقية عند المغاربة السود. على سبيل المثال، في 27 يناير 2021، بثت قناة البي بي سي العربية مقطع فيديو لحملة أُخرى، “ماشي عزية”[13] ، دشنتها عارضة الأزياء هدى فانو، على موقعي انستغرام وتيك توك. كان هدف الحملة حسب تعبير فونو، “كسر الصورة النمطية المتعلقة بالسواد، في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وتفكيك معايير الجمال البيضاء”. فتحت فانو صفحتها للمهاجرين والمهاجرات جنوب الصحراويين الذين اصطفوا للتباهي بالسواد وشجب العنصرية. وقد صرحت هُدى فانو بنفس الشعار الذي أنتجه الأفارقة الأمريكيون خلال نضالهم من أجل حقوقهم المدنية، " الأسود جميل" واضافت عزية هي عنصرية.

لكن رغم موقفها الواضح ضد العُنصرية، رفضت فانو الحجة القائلة إن العنصرية بالمغرب مؤسساتية، أو أن السود المغاربة يرزحون تحت التمييز في مؤسسات الدولة أو إزاء وظائف الشغل. وأقرت ايضاً أن هناك مغاربة سود لم يستجيبوا لحملتها، وآخرون رفضوا حملتها وأنكروا وجود العنصرية. وفي نفس الإطار قامت حملة أخرى، " المغاربة السود" وهي أسم لحساب على موقع انستغرام أنشأته فاطمة الزهراء قاتابو وحظيت الحملة بصدى كبير لتركيزها على العنصرية التي تستهدف المغاربة السود.[14]

سطورة الاكتشاف

بالرغم من هذا النقاش الواسع حول مسالة العنصرية بالمغرب والحملات التي قادها مغاربة ومهاجرون، برز حديثاً خطاب يدعي كشف ما كان مسكوت عنه بالمغرب تبنته مؤسسات وباحثون غربيون غرضهم المعلن فضح العنصرية في شمال إفريقيا خصوصا بالمغرب كحقل مفتوح لاستنتاجاتهم.  وقد ساهم استقرار المغرب بعد انتفاضات ما سمي بالربيع العربي وانفتاح المغرب على مؤسسات البحث الغربية وباحثيها في أن يصبح البلد مختبرا لإنتاج خبراء في العرق. أعاد هذا الخطاب الحياة لأسطورة الاكتشاف الكولونيالية العتيقة، حيث ادعى بعض الباحثين ومعلّقي الميديا أنهم ينزعون الغطاء عن وجوه العنصرية غير المعترف بها في شمال أفريقيا، مدعين أنهم يملؤون الفراغ المفترض في النقاش المحلي، كما تنم عن ذلك عناوين بعض هذه الكتابات: " ليس هناك عرق هنا، عن السواد، والعبودية، والنكران في شمال افريقيا ودراسات شمال افريقيا"، " إنهاء الإنكار" و " بين الاسترقاق والعنصرية في شمال افريقيا.[15]

أصبح المغاربة السود موضوعا لخطاب تبسيطي ونمطي حول وضعيتهم بالمغرب وعن مركزية الرق في تاريخهم الشخصي. ويمثل ستيفن كنج نموذجا لهذا الطرح. يعتبر هذا الباحث الأمريكي من أهم من تزعم هذا الخطاب و نشره في عدة منابر إعلامية ومجلات كنشرة الإصلاح العربي، ودورية دراسات شمال أفريقيا، ومجلة أفريكا إز أكنتري/ أفريقيا قُطر، وفي مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط، من ضمن منافذ أخرى. يتجسد موقف كنج في تصريحات قوية من شاكلة " المغرب قطر متنوع، ومجتمع ما بعد رق، ومع ذلك فإن التنوع، وتاريخ الرق في المغرب والعنصرية والتمييز المتأصلة في مجتمعات ما بعد ـ الرق لا تُدرّس في المدارس، ولا تخضع للقانون بالقدر الكافي، كما أنها لا تُناقش في أغلب عائلات المغاربة غير السود.

وبقدر ما تكون مجهودات إنهاء حالة " إنكار"[16] الرق وتأثيره على تصور السواد بالمغرب دعوة هامة، علينا أن نكون متيقظين حيال الطريقة التي يموضع بها بعض الباحثين الغربيين أنفسهم كمُنقذين. كما ان تاريخ الرق لا يمكن ان يستنفد كل الصلات التاريخية والإثنية التي أسسها المغرب في كل حقبه التاريخية مع باقي القارة الافريقية، لاسيّما غرب أفريقيا. تمثلت هذه الروابط في شبكات من التبادل بين الباحثين والعارفين المتصوفة، والطلاب[17]، وفي علاقات الزواج والقرابة،  وشراكات التجارة[18]، وأكثر من ذلك تم تعزيز هذه الروابط لاحقاً بأحلام التحرر، والثلاثية العالمية، والقومية الافريقية والتي اكتسبت موطئ قدم في كل أجزاء أفريقيا، مُلهَمة في الخمسينيات والستينات بمختلف حركات الاستقلال، والثورة الجزائرية، والناصرية.[19] وقد ناقشت باراسكا تولان ـسكلنيك[20] هذه التيارات المتعددة التي  عرفتها المنطقة في مرحلة ما بعد الاستقلال في فترة الستينيات  حيث توجهت حكومات شمال أفريقيا بأنظارها جنوباً مشجعة أشكالا متعددة للتبادل الثقافي والفني والسياسي. وقد تم تداول الفكر القاري المناقض ال من خلال المنصات المغربية، والتونسية، والجزائرية، أثناء وبعد عقد الستينات. لذلك فإن الروابط التي تجمع بين المغرب وبقية القارة الأفريقية أعمق وأغنى بكثير مما يحتضنه تاريخ الرق رغم أهميته التاريخية والتي لا يمكن إنكارها.

بالرغم من هذه الروابط، أنتجت بعض هذه الدراسات والمقالات الصحفية خطابا يقر بوجود فئتين متمايزتين داخل النسيج الاجتماعي المغربي، فئة البيض أصحاب الامتيازات، وفئة السود المضطهدة من طرف الفئة الأولى وهي قابلة للإنقاذ. وبينما سارع العديد من المؤلفين والمعلّقين الغربيين إلى إنقاذ المغاربة السود من مُضطهديهم، فإنهم تجاهلوا تاريخاً طويلا من التمازج الإثني، واللغوي، وتشابك الهويات داخل القطر الواحد[21]. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الكتابات تساوي بين واقع العنصرية الذي يعاني منه المغاربة السود، ووضعية المهاجرين المنتسبين إلى دول جنوب الصحراء، غير عابئة بالفوارق المجتمعية، والاقتصادية، والشروط الجيوسياسية المرتبطة بسياسات الهجرة، والتي حولت الحدود الحقيقية لأوروبا إلى شمال أفريقيا.

منحت معظم هذه الكتابات الرق قيمة تفسيرية بحيث أنها ربطت عنصرية اليوم بتاريخ الرق في المغرب وشمال افريقيا. وقد اكتسبت هذه الاطروحة انتشاراً سريعا في الولايات المتحدة بعد نشر كتاب “المغرب الأسود: تاريخ الرق، والعرق، والإسلام”[22]، من طرف المؤرخ شوقي الهامل.  وثق الكتاب لتأسيس جيش عبيد البخاري في القرن السابع عشر على يد السلطان مولاي إسماعيل، أحد مؤسسي السلالة العلوية، وربط الكتاب بين هذه اللحظة التاريخية، وعنصرية اليوم. بينما تظل القراءة المتأنية لهذا العمل ضرورية[23]، فهي خارج أفق هذا المقال. ما أريده الآن هو تمحيص بعضا من أصداء هذا الكتاب في الولايات المتحدة وحتى في خطاب العرق في المغرب[24]. يرتكز الكتاب على افتراض مركزي هو أن عنصرية اليوم متصلة على نحو مُباشر بتاريخ " الرق العربي" والذي تتجذر أسسه في الشريعة الإسلامية التي عملت على الحد من الرق دون منعه. “المغرب الأسود” أصبح مدخلا هاما لشرعنة خطاب ذي انتشار واسع عن مركزية الرق الإسلامي العربي[25]،  وعن الشريعة بوصفها خطاباً مُشرعناً يهدف إلى الحد منه دون إلغائه. صارت هذه الآراء إطارا مرجعيا لنقاش واسع في الولايات المتحدة عن عنصرية المغاربة، والتي ردد صداها بعض الباحثين في المغرب وأوروبا.

كان كتاب المغرب الأسود ذا أهمية حاسمة في جلب الرق إلى حلبة المناقشة والوعي العموميين. وقد أظهر الرق بوصفه تأسيسياً لتاريخ واحدة من أهم سلالات الحكم العربية بالمغرب. ما لا يذكره الكتاب هو أن معظم السلالات الحاكمة كانت أمازيغية من أصول صحراوية شكل السواد بعضا من أصولها بالإضافة إلى الرق، وانتجت أجيالاً من السلاطين، وأعيان الدولة من أصول سوداء. كما أن حكايات الرق شكلت مخيلة الرواية المغربية منذ الستينات كرواية “دفنا الماضي[26]” لمؤسس الرواية المغربية الحديثة، عبد الكريم غلاب، بما يعني أن الغياب المفترض لموضوع العبودية والرق في الكتابات المغربية لا يمثل واقعا حقيقيا.

تموقع نظري

ساهمت معاهد بحث فرنسية مستقرة في المغرب الكبير، كمركز جاك بيرك في المغرب، ومعهد الدراسات المغاربية المعاصرة في تونس، في خلق نقاش أكاديمي حول العرق عبر مؤتمرات، وأفلام، وبرامج بحثية ساعدت على صياغة "منطقة نظرية"، بتعبير ليلى أبو لغود، جديدة لتوليد معرفة حول العرق والعنصرية بالمنطقة المغاربية. هذا التركيز لا يوازيه الا صمت تام حول مسالة العنصرية بفرنسا وذلك بشهادة الباحثين المغربيين المنتمين إلى الحقل الأكاديمي الفرنسي. فيصبح شمال أفريقيا، خصوصا المغرب، مختبرا لتشكيل نظرية حول العنصرية كظاهرة تهم الشمال الأفريقي كمُختبر لتجديد مجالات الخبرة الغربية القديمة التي ركزت على السلطوية السياسية، واللامساواة، والطائفية، والأصولية، والآن العنصرية. يظهر هذا التركيز على العنصرية في شمال افريقيا تناقضا حادا مع واقع البحث العلمي حول العنصرية في فرنسا. فعلى سبيل المثال، يذكر الميري[27] وهو أحد الباحثين المقيمين في فرنسا، “إن أية محاولة من طرف الباحثين لطرح قضية العنصرية داخل المؤسسات الأكاديمية الفرنسية يكون مصيرها التجاهل، بوصفها مسعى عنصري". إذ حاجج الميري أن الباحث “المُعرقن متهم بإقحام العرق مرة أخرى في المجال العلمي" بوصفه طريقا للوصول الى غايات سياسية. وقد جاء الرد على هذا الإقصاء من طرف تكتلات خارج إطار المنظومة الأكاديمية مثل "السكان الأصليين للجمهورية[28]" ـ الاسم الذي يصف فرنسا بكونها دولة. تستخدم هذه المجموعة ابستمولوجيا وممارسات عملية مناقضة للكولينيالية تشجب خطاب وسياسات الدولة الفرنسية، التي تسميه هذه المجموعة، عنصريا. تضع هذه الشبكة من الكُتاب والأكاديميين والناشطين، الجيوسياسة الحالية العنصرية لفرنسا في حوار مع تاريخ فرنسا الاستعماري، وتعارض على نحو منتج التحليل التقاطعي المنبثق عن الفكر النسائي الأسود والذي نادى بأبستمولوجيا جديدة ومنهج لا يرتكز فقط على التقاطع بين الجنس، اللون، والطبقة الاجتماعية، بل أيضا على أشكال أُخرى من التقاطعات، تتضمن الكولينيالية، والرأسمالية، والإسلاموفوبيا.

وجد التحليل التقاطعي مدخله إلى فرنسا عبر الدوائر النسوية، في العقد السابق، بوصفه طريقة لجمع أسئلة الطبقة، والجندر، والجنسانية معاً. مع ذلك، وكما حاججت فاطمة ايت بلمدني، ونسيمة موجود أن التقاطعية لم تتضمن بعد تجربة من أسمته الباحثتان “الآخر المُعرقن للنسوية البيضاء[29]”. ظلت هذه الأسئلة مع أسئلة أُخرى، من ضمن أجندة " السكان الأصليين للجمهورية"، بيد أن هذه المجموعة تظل مُهمشة كُليّاً في المجال الأكاديمي ويظل خطابها مهمش في الدوائر الرسمية. لكن هذا الخطاب حول العنصرية غير المباح في الدواء. الأكاديمية الفرنسية هو ما يتم نقله لشمال أفريقيا.

ديكولنيالية العرق ورهاناته

طرح الأنثروبولوجي عبد الله حمّودي المنطق الديكولونيالي في علاقة مع " النقد المزدوج[30]“ كوسيلة للتعامل مع الوضع ما بعد الاستعماري والمعرفة الاستعمارية. في حالة الخطاب عن العنصرية، يستلزم النقد المزدوج محاربة التمييز العرقي عن طريق تشجيع المبادرات المحلية ومناصرة كل الفعاليات المناهضة للعنصرية. وفي نفس الوقت ينبغي قراءة المشروع الغربي حول العنصرية في شمال أفريقيا من خلال نظرة نقدية لكيفية نقل اشكالية انتهاكات حقوق المهاجرين الأفارقة والسياسات العنصرية التي تستهدفهم في أوروبا إلى الجزء الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط. وقد لاحظ الفنان المغربي التشكيلي مبارك بوحشيشي أن نقل المراقبة البوليسية جنوب المتوسط هي محاولة لـ " إبقاء شواطئه الشمالية بيضاء. "لذلك كرس بوحشيشي فنه التشكيلي لتبيان ما يسميه " التعددية الإثنية في المغرب" وليبين ان السواد هو في الحقيقة "مصدر إلهام" لفنه، و “التعددية الأفريقية، هوية“ حسب تعبيره.[31]

ومن منطلق آخر، شكل مقتل الأفريقي-الأمريكي جورج فلويد، على يد الشرطة في مدينة منيابوليس الأمريكية في شهر مايو 2020 لحظة فارقة في نشأة خطاب حول العرق والعنصرية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ينطلق من المؤسسات الأمريكية. نَُسب مقتل جورج فلويد إلى مكالمة هاتفية مع الشرطة، قام بها موظف في محل تجاري عربي، وكادت هذه المكالمة ان تخلق استقطابا مجتمعيا غير مرغوب فيه، بين العرب الأمريكيين والأفارقة الأمريكيين. وبينما هزت الاحتجاجات مدنا في مناطق شاسعة من العالم، بما فيها مُدن الشرق الأوسط، قاد باحثون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجهودات هامة لفتح حوار جديد حول مسألة العرق والعنصرية داخل مجتمعاتهم. هذا النقاش أدى إلى طرح هذه المسالة من خلال منظور السود المنتمين إلى هذه الدول من باحثين وفنانين وكتاب وناشطين في المجتمع المدني.  جهر الإيرانيون، والأتراك، والشمال أفريقيون، رجالاً ونساء، بأصواتهم، في خطوة تتسم بالتفرد، بتجاربهم مع العنصرية في بلدانهم عبر التركيز على سياقاتها القومية وابعادها العالمية. على الرغم من ذلك ظهرت بعض المشاكل، عندما استغلت أصواتهم وتحليلاتهم العرقية بواسطة باحثين في الداخل والخارج، على حدّ سواء، والتي تتضمن مرامي اخرى من بينها خلق منطقة جديدة لنظرية العرق.

تمثل هذه الدراسات السواد بوصفه " الآخر" في شمال إفريقيا، وتطرح البياض كقيمة سائدة يصبح من خلالها السواد اقلية إحصائية. وهذا طبعا أمر غير صحيح.  ففي المغرب مثلا، ينفي هذا التقاطب بين لونين، تاريخاً مليئاً بالتمازج بين الأجناس والإثنيات، وينفي عنف السياسات الاستعمارية التي “عرقنت” المغاربة جميعهم ليصبحوا موضوعا لسياسات تفرقة جغرافية وعنصرية لازال تأثيرها ممتدا إلى اليوم، والتي مثلتها تسمية مناطق شاسعة “بالمغرب غير النافع”.  والغريب في الأمر هو أن هذا الخطاب الذي يعتبر المغاربة بيضا، يتناقض بشكل مطلق مع التصورات الاستشراقية للمور، سكان شمال أفريقيا، بوصفهم سودا، لينتجهم الآن كعرق ابيض سائد على قسمه الأسود.

بالرغم من ذلك، تتطلب منا الابستمولوجيا الديكولونيالية الانخراط مع الابستمولوجيا الاستعمارية لتفنيد فرضية الاكتشاف ومساءلة تموضع وسلطة الكتابة من وجهة نظر استشراقية واستعمارية. لذلك يتطلب منا الطرح الديكولونيالي رفض العنصرية ضد السود وفي نفس الوقت الانتباه الى السياقات المعرفية والأيديولوجية التي أنتجت الخطاب الحالي حول العرق ونقلته إلى شمال أفريقيا ليتم تداوله كحقيقة علمية. وبدون أن نشكك في تجارب العنصرية تجاه السود، ينبغي أن ننتبه لتعدد التجارب واختلافها لكي لا يصبح واقع السواد واقعا متجانسا يشترك فيه المهاجر الأسود والمغربي الأسود. الطرح الموضوعي يقتضي الا نمزج التجربتين تحت نفس النوع من التحليل، وان نميز بين الوضعية الخاصة التي يعيشها المهاجر، اسود البشرة، ووضعية الأسود المغربي الذي يتمتع بحقوق المواطنة كباقي المغاربة.  وأخيرا، يتطلب منا الطرح الكولونيالي الاعتراف بالخطاب و المبادرات والنقاش المحلي حول العنصرية[32]، كما أظهر هذا المقال. لذلك من المهم إنتاج معرفة من الداخل لا تشرعن للهيمنة الثقافية أو السياسية ولا تتضمن فكرة الانقاذ من الخارج أو نقل الثنائيات العرقية وتاريخ الفصل العنصري الذي ميز علاقات العرق بالولايات المتحدة الأمريكية إلى شمال أفريقيا، التي قد تصبح بفضل هذه الكتابات موطنها الحالي. واخيرًا، افتراض البياض كمكون عرقي لسكان شمال أفريقيا، يقوم على نفي أو إنكار الجذور الأفريقية لشمال أفريقيا. ومن الأهمية بمكان ألا نمنح تاريخ الرق في المنطقة قوة تفسيرية وحيدة التوترات المجتمعية المنبثقة عن ظاهرة الهجرة. نحتاج إلى التحلي بالحذر حين نؤول الوضع العرقي المعقد في المغرب.

 كي لا نفرض نظريات أو براديغمات مفهومية مشتقة من تواريخ مختلفة للعرقنة، والمنتمية على وجه الخصوص للتاريخ الأوروبي الأمريكي. ليس لأنها قد تشوه تاريخ العلاقات المجتمعية بشمال أفريقيا فحسب، بل لإنها قد تنطوي على تبعات جيوسياسية مهيمنة وعنصرية ضمنية ضد كل ما هو شمال أفريقي ومسلم.

تحجم من الإنجليزية إلى العربية بقلم أحمد نشادير.

Bibliography:

Abu-Lughod, L. (1989). Zones of Theory in the Anthropology of the Arab World. Annual Review of Anthropology 18: 267–306.

Aidi, H. (2023). Moulay Ismail and the Mumbo Jumbo: Black Morocco revisited. Islamophobia Research and documentation project. The Islamophobia Studies Journal. https://iphobiacenter.org/wp-content/uploads/2022/08/BLACK-MOROCCO.pdf


---------. (2022). Egypt and the Afrocentrists: The latest round. Africa is a Country. https://africasacountry.com/2022/03/egypt-and-the-afrocentrists-the-latest-round

Ait Belmadani, F & Z. Chattou. (2014). Les Sénégalais dans la société marocaine, Parcours, motivations et insertion sociale.  Rapport, MIM-AMERM


------------------ & N. Moujoud. (2012). Peut-on faire l’intersectionnalité sans les ex colonisé(e)s ? Movements 4(72): 11-21.


Al Ashraf, H. (2014). ما†سميتيش†عزي∫†أول†حملة†وطنية†تناهض†العنصرية†بالمغرب (“‘My name is not ‘azzi’: First National Campaign to Stand against Racism in Morocco”). Hespress, March 29. https: //www .hespress .com /%D9%85%D8%A7 -%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%AA%D9%8A%D8%B4 -%D8%B9%D8%B2%D9%8A -%D8%A3%D9%88%D9%84 -%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9 -%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9 -%D8%AA%D9%86%D8%A7%D9%87%D8%B6 -%D8%A7 -164356 .html.

Al Jazeera. (2005). Masādir sahafiyya bil maghrbi shabbahat al afāriqa biljarād al aswad. September 19. https: //www .aljazeera.net /news /2005 /9 /19/%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%A9 -%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D9%81%D8%A9 -%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9 -%D8%B4%D8%A8%D9%87%D8%AA -%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D8%A7%D8%B1%D9%82%D8%A9.


BBC Arabic. (2021). Mashi ‘azziyya.” Tunāhidu al ‘unsuriyya baina almaghribiyyat. January 27. https://fb.watch/fQ4M8hTkiU/.

Boutelja, H. (2017). Whites, Jews, and Us: Toward a Politics of Revolutionary Love. Translated by Rachael, Valinsky. MIT Press

Boum, A. (2021). The Life of a Tablet. In Islam Through Objects, p. 143–58. London: Bloomsubury Publishing.

Ghallab, A. (2018). We Have Buried the Past. Translated by Roger Allen. London: Haus Publishing.

Gross-Wyrtzen, L. (2023). ‘There is no race here’: On Blackness, Slavery and Disavowal in North Africa and North African Studies. Journal of North African Studies 28(3): 635–65.

Guénif-Souilamas, N. (2000). Des «beurettes» aux descendantes d'immigrants nord-Africains. Paris : Grasset. Editorial. (2015). Le Peril Noir. Maroc Hebdo, April, 18.

El Hamel, C. (2013). Black Morocco: A History of Slavery, Race, and Islam, Cambridge; Cambridge University Press.

El Guabli, B. (2021). My Amazigh Indigeneity: The Bifurcated Roots of a Native Moroccan. Jadaliyya. https://www.jadaliyya.com/Details/43343.

El Miri, M. (2018). Devenir « noir » sur les routes migratoires : Racialisation des migrants subsahariens et racisme global. Sociologie et sociétés 50(2): 101-124.

Hammoudi, A. (2021). Decolonizing anthropology at a distance: Some Thoughts. Journal of ethnographic theory 11(1): 281-290.

Hannoum, A. (2020).  Living Tangier: Migration, Race, and Illegality in a Moroccan City. Princeton, NJ: Princeton University Press.

King, S. J. (2020). Ending Denial: Anti-black Racism in Morocco. Arab Reform Initiative. https://www.arab-reform.net/publication/ending-denial-anti-black-racism-in-morocco/

------------. (2019). Black Arabs and African migrants: between slavery and racism in North Africa. The Journal of North African Studies: 1-41.

Mamdani, M. (2018). Trans-African Slaveries: Thinking Historically. Comparative Studies of South Asia, Africa, and the Middle East 83(2): 185-2010.

Salime, Z. (2023). Herstory: Shades of Migration and Social mediation in Colonial Morocco.

Souffles-Monde 1. https://www.soufflesmonde.com/posts/herstory-racialization-and mediation-in-colonial-morocco.

TelQuel. (2003). Les marocains sont-ils racistes? February 8–14. https: //telquel .ma /sommaire /les -marocains -sont -ils -racistes.

Tolan-Szkilnik, P. (2023). Maghreb Noir: The Militant-Artists of North Africa and the Struggle for a Pan-African, Postcolonial Future. Stanford, CA: Stanford University Press.

Yassni, Y. (2023). The Status of Black Moroccan Women: Color and Gender Stigmas. Souffles-Monde 1. https://www.soufflesmonde.com/posts/the-status-of-black-moroccanwomen-color-and-gender-stigmas.

[1] This article was original published by Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East in 2024. See Zakia Salime, (2024) “Decolonizing the Race Debate about North Africa,” Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East 44(3): 407-412.

[2] TelQuel, “Les marocains sont-ils racistes?”

[3] TelQuel, “Les marocains sont-ils racistes?”

[4] See, Hannoum, Living Tangier.

[5] Al Jazeera, “Masādir sahaftyya.”

[6] “Le Peril Noir.”

[7] See Conseil national des droits de l’homme, “Étrangers et droits de l’homme au Maroc.”

[8] Alami, “My Name is Not Negro.”

[9] Kathy, “Abused and Expelled.”

[10] See GADEM’s website for more on these campaigns: https://www.gadem-asso.org/en/home/.

[11] The collective of nongovernmental organizations behind the campaign printed the motto on T-shirts, signs, and banners and shared it on social media platforms, all in Arabic and French. A conference and film screenings bolstered this action through personal testi- monies, academic debates, and political interventions. See TelQuel, “Dans l’enfer des subsahariens.”

[12] Al Ashraf, “عزي سميتيش ما” (“My name is not ‘azzi ”).

[13] BBC Arabic, “Mashi ‘azziyya.”

[14] See her interview with Nadia El-Hachimi, “Racisme virtuel.”

[15] Gross-Wyrtzen, “ ‘There is no race here’”; King, Ending Denial; King, “Between Slavery and Racism.”

[16] King, “Ending Denial.”

[17] See Boum, “The Life of a Tablet.”

[18] See Ait Belmadani and Chattou, “Les Sénégalais dans la société marocaine.”

[19] Aidi, “Egypt and the Afrocentrists.”

[20] Tolan-Szkilnik, Maghreb Noir.

[21] See El Guabli, “My Amazigh Indigeneity,” and Boum, “The Life of a Tablet.’

[22] El Hamel, Black Morocco.

[23] See Aidi. “Moulay Ismail and the Mumbo Jumbo.”

[24] Yassni, “The Status of Black Moroccan Women.”

[25] On this label of Islamic slavery, see Mamdani, “Trans-African Slaveries.”

[26] A case in point is Ghallab’s groundbreaking novel We Have Buried the Past (Dafanna al-madi).

[27] El Miri, “Devenir ‘noir’ sur les routes migratoires.”

[28] See Guénif-Souilimas, Des “Beurettes”; Bouteldja, Whites, Jews, and Us.

[29] Ait Belmadani and Moujoud, “Peut-on faire l’intersectionnalité sans les ex-colonisé(e)s?,” 13.

[30] Hammoudi, “Decolonizing Anthropology.”

[31] See “The invisibility of Black Moroccans,” interview by Amina Alaoui, January 15, 2020. https://themetric.org/articles/the

-invisibility-of-black-moroccans

[32] Salime, “Herstory.”