تقديم:

بعد سنة 2010، عاد النقاش حول مشروعية استعمال نظريات وبراديگمات العلوم الاجتماعية (الغربية) لتحليل سياقات اجتماعية وسياسية مختلفة عن البيئة والمجتمعات التي نشأت فيها. فمع بروز حِراكات ما سمي بـ “الربيع العربي" في أكثر من بلد وتصاعد الديناميات الاحتجاجية في المنطقة، اجتهد الكثير من الباحثين في العلوم الاجتماعية والسياسية في البحث داخل سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية، الفعل الاجتماعي وحركات التغيير السياسي، عن النظريات الأكثر تفسيرا لهذه الديناميات الاحتجاجية.

كان للعودة إلى العُدة النظرية المتواجدة في سوسيولوجيا الفعل، الحركات الاجتماعية والسيكولوجيا الاجتماعية، النصيب الأكبر في عدد البحوث والمقالات التي اهتمت بالموضوع. وبتلخيص شديد، وبغض النظر عن البحوث التي بقيت حبيسة نظر تخصصها: من تفسير بفُجائية هذه الحركات (فتحي بنسلامة، 2011). أو دراسات أخرى استعارت شبكة تحليل جاهزة، للحركات الاحتجاجية الجديدة، كما أسس لها السوسيولوجي الفرنسي آلان تورين (الصوت والنظرة، 1993) أو استدعاء منطق الفعل الجماعي اقتداء بمدرسة شيگاكو (منصور أولسن، 1967). ساءلت محاولات قليلة المعارف السوسيولوجية حول الحركات الاجتماعية بمعطيات ميدانية، وذلك بإظهار محدودية، هذه المعارف، في تفسير الحراكات التي عرفتها المنطقة. وفي السياق المغربي، الذي يهمنا في هذه الورقة، اهتمت دراسات قليلة بتجريب نظريات الفعل في الميدان بروح نقدية (عبد الرحمن رشيق، 2016. مونية بناني الشرايبي ومحمد الجغلالي، 2012).

لم تهتم الحركة النقدية للسوسيولوجيا الكولونيالية في المغرب، في غالبيتها، خلال سنوات السبعينيات، بمزاوجة الميدان مع النقد، وذلك لإيصال النظريات الكولونيالية التي حاولت تفسير الميدان المغربي لمداها، وتأزيمها في الميدان. فقد حاولت إسهامات نادرة، لرائد السوسيولوجيا المغربية بول باسكون، أن تنقض المعارف الاستعمارية في الميدان، وذلك بخلق مفاهيم جديدة تقابل مفاهيم مهيمنة في تعريف ودراسة المجتمع المغربي. لكن مشروع باسكون الطموح بإنتاج معرفة تطابق الميدان المغربي، بقي محصورا في نقاشات خاصة بين باحثين من تخصصات مختلفة من بينهم نجيب بودربالة، كريكوري لازاريف، محمد الناصيري، عبد الله الحرزني، عبد الله حمودي، محمد الطوزي، محمد الناجي، وآخرين... (مقابلات خاصة بالباحث، 2022، لم تنشر بعد، مع عبد الله الحرزني وعبد الله حمودي).

لقد تميزت حركة نقد المعرفة الكولونيالية بالمغرب، في سنوات الستينيات والسبعينيات، بإسهامات نقدية ومعرفية مهمة. ونقصد هنا، بالخصوص، إسهام عبد الله العروي باقتراح منهج تاريخاني مختلف عن التاريخانية الماركسية، وأيضا إسهام عبد الكبير الخطيبي من خلال منهج النقد المزدوج، حيث ظل هذان المنهجان دون تجريب في الميدان في كتابات العلوم الاجتماعية.

وفي سياق حركة نقد الاستشراق، انخرط عبد الله العروي، في نقاش حول مدى جدوى وملاءمة علم الأنثروبولوجيا ومناهجه، لدراسة المجتمعات العربية. (العرب والأنثروبولوجيا الثقافية: ملاحظات حول منهجية غوستاف، فان جرونبوم، 1974: 55). فالاستشراق، بالنسبة للعروي، "ليس تطبيق العلم الغربي على مجتمعات الشرق، بل نلاحظ فيه ضيقا في الأفق يرجع إلى أسباب شتى: تكوين المستشرقين أنفسهم، وانتمائهم الاجتماعي، والأهداف المحددة لتخصصهم، كما أنهم يمثلون قسما من البيروقراطية الغربية. وهذه الوضعية تحد من قدرتهم على إبداع طرائق منهجية جديدة في مجالهم الخاص" (العرب والفكر التاريخي، 1974: 117).

في ذات السياق، اقترح العروي، منهجيته النظرية. التاريخانية، والتي يتحدد معناها لديه بأربع مقومات: "ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل)؛ وحدة الاتجاه (الماضي – المستقبل)؛ إمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس)؛ وإيجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمن)". (العرب والفكر التاريخي، 1974: 206 - 207). تاريخانية صالحة لفهم المجال السياسي، ومجربة لدراسة حالة المغرب في القرن التاسع عشر. ويوضح العروي منهاجه بالقول: "بعدما رسمت الخطوط العريضة للذهنية التاريخانية الحديثة، انكببت على دراسة حالة معينة، مغرب القرن التاسع عشر. ولم أدّع أبدا أن ما استخلصته من هذه الدراسة العينية ينطبق على البلدان العربية الأخرى. وحتى في الإيديولوجيا العربية المعاصرة لم أتطرق إلى أوضاع مصر إلا لأن الزعماء المغاربة كانوا يتخذون مصر مثالا... كان محمد عبده بالنسبة إلي مفتاح فكر علال الفاسي"، مضيفا في توضيحيه أكثر "من العبث مقابلة التاريخانية بمناهج أخرى مثل التفكيكية أو البنيوية مثلا، هل أنصار التفكيكية وضعوا نهجا لفهم السياسة؟ كل منهاج صالح لمجال معرفي خاص به". (عبد الله العروي، 2014: 12).

أما بالنسبة لعبد الكبير الخطيبي، فإن عملية تحرير المعرفة "تتمثل في القيام بعمل نقدي مزدوج: تفكيك المفاهيم الناتجة عن المعرفة والكتابة السوسيولوجية اللتين كانتا تتكلمان باسم العالم العربي ويغلب عليهما الطابع الغربي وإيديولوجيا التمركز على الذات. وفي الوقت نفسه نقد للمعرفة والكتابة السوسيولوجية واللتين أنجزتهما مختلف مجتمعات العالم العربي حول ذاتها".  فالنقد المزدوج، بتلخيص الخطيبي نفسه، هو: "حركة مزدوجة منسقة نرى أنها وحدها القادرة على تجاوز مجرد الإعادة والتكرار، وتفتح أمام علم الاجتماع إمكانية معرفة علمية أقل استلابا وأكثر تكيفا مع خصوصية الموضوع المطروح" (عبد الكبير الخطيبي، 1990: 139).

في سياق هذا التفكير النقدي لتحرير المعرفة من الاستعمار، تميز إسهام رائد السوسيولوجيا التطبيقية بول باسكون (1932-1985)، بمناقشة وتجريب النظريات والمفاهيم المهينة في الميدان المغربي. يوضح باسكون، في مقال نشر بعد وفاته، بعنوان: زيارة قصيرة لمطبخ العلوم الإنسانية: "إن كثيرا من الباحثين، وحتى المبتدئين منهم، يحاولون – رغبة منهم في ارتقاء سلم النجاح ارتقاء سريعا، والتمتع بمباهج النخبة – احتلال حقل النظرية، تاركين حقل الوقائع دون زرع. والخلاصة هي أنهم يعودون لوقائع الآخرين، ويحاولون إعادة صياغة نظريتها. كما لو أن النظرية غير موجودة، بالأساس، في هذه الوقائع". موضحا في ذات المقال "لا أرفض النقاش حول النظريات الكبرى، شريطة ألا يكون هدفه هو إقناعنا بأن نظرية ما أفضل من غيرها، بل أن يساعدنا على التخلص مما تخفيه هذه النظريات". فموقف رائد عالم الاجتماع الميداني من النظريات المهيمنة واضح، بالنسبة له: "ما من نظرية صحيحة! والمسألة الوحيدة التي تهمنا، هي أن ننظر بداية فيما أخطأت هذه النظريات وعجزت عن تفسير الحالة قيد الدرس. وبالتالي، إذا فهمنا ذلك، وعلمنا أن هذه النظريات تخفي عنا، بوعي أو بدونه، جزءا من الواقع، لأنها تظهر بعنف جزء منه فقط، فسنكون أكثر تسلحا لملاحظة الظلال التي تحملها هذه النظريات" (بول باسكون، 1986: 112).  

سنقوم بتقسيم هذه الورقة إلى ثلاثة محاور، محورين إشكاليين، نحاول فيهما تحديد جدوى ومحدودية بعض الإسهامات التي حاولت تقديم تصور جديد/قديم للعلوم الاجتماعية في منطقتنا، الأول: بطرح إشكالية الشمولي والخصوصي انطلاقا من وضع تصور ضيق: ديني أو لُغوي... للعلوم الاجتماعية. ومحور ثاني نطرح فيه التساؤل حول إمكانية منهج دراسة الحياة اليومية Everyday Life Studies وإخراج الباحث الاجتماعي من مأزق السقوط في نظريات جاهزة، والوقوع في الإسقاطات النظرية لبيئة دراسية مختلفة؟

وفي المحور الثالث: سنحاول تقديم تصور، من خلال العودة إلى حالة الحِراكات المغربية، لنظرية ميدانية في التعامل مع حِراكات خارجة عن التصنيفات التي وضعت من قبل مفكري وسوسيولوجي الفعل والحراك الاجتماعي الغربيين.

منهج نقد الاستعمار: مناقشة لاجتهادات حمودي:  

اتجهت المعرفة النقدية للعلوم الاجتماعية بالمنطقة العربية، في أغلبها، إلى اتخاذ "الخصوصية" (سواء الإسلامية أو العربية) مرجعا لبناء بديل تحليلي وتفسيري للظواهر الاجتماعية التي تعرفها المنطقة. فكثير من الإسهامات التي حاولت نقد المعرفة الكولونيالية في المغرب، اكتفت بنقد ومناقشة بعض النظريات والأطروحات، التي حاولت تفسير المجتمع المغربي من خلال مقتربات سوسيو-أنثروبولوجية، في مقالات نقدية أدبية، وأيضا في ندوات تكريمية لبعض علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الذين سبق لهم الاشتغال في الميدان المغربي (حسن رشيق، 2012: 76).

في سياق تحرير المعرفة من الاستعمار أو الهيمنة، برز في السابق خطابان يقدمان بديلان لعلوم اجتماعية جديدة، بتصور يعتمد على خصوصية دينية أو هوياتية مقابلة للفكر الغربي (محمود الداودي، 2020 وهبة رؤوف عزت، 2015).  وظهر حديثا خطاب جديد، ينتقد الخطابين السابقين، في مسألة دفع النقاش حول تصور علوم اجتماعية جديدة إلى مسألة الهوية (الإسلامية بالخصوص)، ويتفق معهما في العود إلى ما قبل الحداثة والاشتغال على الموروث العربي، أيضا بتصور يستحضر خصوصية اللغة، لتصور علوم اجتماعية عربية (عبد الله حمودي، 2022: 10 – 11).

في هذه الفقرة، سنكتفي بمناقشة إشكالية الخصوصية والشمولية، في إيجاد تصور علوم اجتماعية جديدة أو متجددة، وفق ما أتى به الأنثروبولوجي عبد الله حمودي، في كتابه "ما قبل الحداثة" وخصوصا في مسألة المنهج المقترح (عبد الله حمودي، 2022: 82 – 107). يعود حمودي في هذا المقترح إلى عمل رائد علم الاجتماع المغربي بول باسكون، في مجموعة من أعماله الفردية (حوز مراكش) أو الجماعية (دار إيليغ) وأبحاث أخرى..، وخصوصا إلى ما أسماه حمودي "الهوة" أو "البؤرة"، وذلك من خلال تأزيم مجموعة من المناهج المقتبسة، وأيضا "البراديغمات"، على محك التجارب الملموسة، وخاصة في الأبحاث الميدانية، وهو الشيء الذي فرض، حسب حمودي دائما: "تكييف المناهج وتجاوز الاقتباس بفضل الابتكار. ومن تم فقد استقل مجهود باسكون، ولو نسبيا، ليلائم واقعا مغربيا"، ليضيف: "أن في هذه العملية درسا قابلا للتعميم فيما يتعلق بموقع المنهج أولا، وثانيا بالنسبة لدور الأزمة في مجال الابتكار المفاهيمي والمنهجي" (حمودي، 2022: 89).

يشير عبد الله حمودي بوضوح في كتابه "ما قبل الحداثة: اجتهادات في تصور علوم اجتماعية عربية"، إلى اعتماده على منهج "النقد المزدوج"، الذي كان قد اقترحه في سنوات السبعينيات السوسيولوجي عبد الكبير الخطيبي، وأضاف عليه حسب حمودي، إضافات عبد الله العروي في هذا المنهج. وهو تلاقي محفوف بكثير من المخاطرة والمجازفة في آن، فالكتابان مارسا على بعضيهما "لعبة النفي". لم يهتم العروي بمناقشة النقد المزدوج، بتاتا، والخطيبي أخضع تاريخانية عبد الله العروي لنقده المزدوج.

صنف الخطيبي عبد الله العروي على أنه إيديولوجي. وكبته عنه: "ما يهدم تاريخانية العروي هذه هو أمانتها للهوية الوحشية، أي لمسألة ساذجة من مسائل الوجود. ومن هنا يخلط العروي بين "الآخر" و"الغير" والآخرين"، بين الأنثروبولوجيا الثقافية وفكر الاختلاف، بين التاريخي والتأريخي، زد على ذلك أن آراء العروي المختلفة حول الوجود العربي تسقط من تلقائها: فلسنا في حاجة إلى الإلحاح على هشاشتها (...)". مضيفا، أن "إيديولوجيا العروي منهارة في أساسها" (عبد الكبير الخطيبي، 1990 [1980]: 14). وبذلك تكون عملية التوفيق بين منهجين متعارضين (النقد المزدوج والتاريخانية) التي قام بها حمودي منفلتة. انفلات يُؤزِّم الإشكال بين الحداثة والهوية، الخصوصية والشمولية، وأيضا مترددة في حسم مسألة المنهج كأداة علمية ترسم المسافة بين العلم والإيديولوجيا.

استحضر عبد الله حمودي، ما أسماه بدرس "البيروني في مقاربة الآخر (الهند)"، نموذجا للعودة إلى ما قبل الحداثة، لتثمين أطروحته لتصور علوم اجتماعية عربية. لكن هذه العودة في ضوء منهج "النقد المزدوج"، كما أسس له الخطيبي، كان محل مساءلة ونقد بدوره. يقر حمودي أن البيروني، في دراسته للهند، كان منخرطا في الطرف الغالب. ليس هذا فحسب، بل إن كتاب الهند لأبي الريحان البيروني، وحسب حمودي دائما، "كان عملا استطلاعيا لفائدة الغزاة" (حمودي، 2022: 28، 34)، فهل يمكن الاتجاه إلى نقد وتجاوز المعارف الكولونيالية بمعارف أخرى غازية؟

لقد نُقدت المعارف الاستعمارية، في المغارب والمشرق، ببدائل يستلم لها الباحث على المستوى النظري. لكن إبستمولوجيا، مازال إشكال منهج دراسة الظواهر الاجتماعية ميدانيا موضع مساءلة مستمرة... فرغم كم النقد الذي أنتج في المنطقة حول الإرث الاستعماري – البحثي، لم نستطع بعد الوصول إلى منهج مقبول في العلوم الاجتماعية، يصلح لدراسة الظواهر الاجتماعية وقابل للتعميم، في المنطق على الأقل، يكون بديلا عن الانزواء في "إيديولوجيات" أو "هويات" معينة. إن ما يجعل جل المحاولات، التي سبقت، حبيسة نفسها، على المستوى العملي، هو الوقوف في موقع النقيض الأيديولوجي، وأيضا عدم تجريب، هذه المحاولات، في الميدان من أجل الخروج بنتائج علمية تقابل، بالتأكيد أو النفي، المعارف السابقة، سواء الاستعمارية أو الوطنية.

دراسة الحياة اليومية: خروج من المأزق!

بعيدا عن النقاشات الإبستمولوجية حول المنهج أو المقاربة التي تصلح لدراسة الظواهر الاجتماعية في المنطقة، التي من المفيد أن تستمر في جميع الأحوال، هل يمكن لمنهجية دراسة الحياة اليومية، وذلك باعتماد مناهج متعددة طوِّرت، كما العادة، في السياق الأورو- أمريكي، منذ سنوات أواسط القرن الماضي، بالرجوع إلى المساهمات التأسيسية لكل من إرفينغ كوفمان (كوفمان، 1973)، ميشيل مافيزولي (مافيزولي، 1973) ، هنري لوفيفر (لوفيفر، 1974) وغيرهم... أن يكون بديلا أو حلا للخروج، حِرفيا، من مأزق هيمنة منظومة المعرفة الكولونيالية، في العلوم الاجتماعية، على التوجهات البحثية في منطقتنا؟

لم يتم الاهتمام بدراسة اليومي، في المغارب والمشرق، إلا نادرا في دراسات سوسيو-أنثروبولوجية، مميزة ومن قبل باحثين في علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا، بل أغلب الكتابات حول سوسيولوجيا أو أنثروبولوجيا الحياة اليومية، عبارة عن كتب أو مقالات، في غالبيتها، هي تلخيصات أدبية لإسهامات نظرية حول هذا الفرع البحثي من العلوم الاجتماعية.

مع ذلك، هناك استثناءات بارزة، على قلَّتها وهنا أذكر: (الطفولة في اليومي [بالفرنسية]، عائشة بلعربي 1991)، (موسم في الحج، [بالفرنسية] حمودي 2005)، (الإسلام في الحياة اليومية [بالفرنسية]، العيادي، رشيق والطوزي. 2007).

لقد أشار التقرير الثاني للمرصد العربي للعلوم الاجتماعية، في ورقته الخلفية: مراجعة للكتابات السوسيولوجيّة باللغة العربيّة في الدول المغاربيّة بين 2000 و2016، إلى ضآلة الإنتاجات السوسيولوجية التي تهتم بسوسيولوجيا الحياة اليومية، حيث تم إقصاء هذا المجال من بين مجالات أخرى من تحليل الإنتاج السوسيولوجي في الدول المغاربية، التي لم تتجاوز عدد الإصدارات فيها 3 كتب (هشام أيت منصور، 2017: 9).

وفي ذات التقرير أشار الأنثروبولوجي عبد الله حمودي في التقرير العام المعنون بـ: العلوم الاجتماعية في العالم العربي: مقاربة الإنتاجات الصادرة باللّغة العربيّة (2000-2016)، أن مستقبل الأنثروبولوجيا في المنطقة يظهر من خلال محاولتين بارزتين: "الأولى: تنقل لنا صورة إثنوغرافية عن الحياة اليومية في جوّ الحرب والعنف والدمار. وتتكون هذه الصورة بفضل نقل شهادات أشخاص بأسمائهم، أحياء ملموسين (لا أمثلة أو تصورات). وتنقل كذلك حياتهم اليومية وحياة الأشخاص الذين قابلوهم وذلك من خلال حصار حلب. ويُعدّ الموضوع من صميم الاهتمامات الجديدة بالحروب، والعنف، والإبادات التي طبعت القرن العشرين وما تبعه". (درويش، صبر، ومحمد أبي سمرا. 2016). المحاولة الثانية، بحث مبدع بوسيلة الكاميرا، وعرض من خلال الصورة، وهو ما يُعدُّ في حد ذاته تجديدا في مستوى التجديدات التي اضطلع بها أنثروبولوجيون في بلدان أخرى بوساطة التصوير والفيلم. والموضوع نفسه جديد في المحيط العربي، وهو حياة السجن والسجين، حيث وثق المؤلفان (نشابة، عمر وهيثم الموسوي، 2015) بتدقيق واقع 23 سجينا في لبنان ونقلا لنا أقوالهم وأصواتهم. وهذا ما يضع القارئ وجها لوجه مع قساوة السجن وغرابة تجربته، كما مع وضعية السجون المأساوية، وغياب التفكير في الإصلاح". (حمودي، عبد الله. 2017: 72).

لكن على الرغْم من تفاؤل التقرير بكون هاتين المحاولتين واعدتين، في مسألة نقل الحياة المُعاشة، بكل تفاصيلها، بطرق حديثة، يبقى سؤال المنهج في العلوم الاجتماعية، حتى في دراسة اليومي والمُعاش، مطرح تساؤل. فلا إبداعية البحث أو أمانة نقل المعلومات، كافيان لوحدهما للحديث عن تحرير المعرفة. بل لابد، في نظري، من العودة أيضا إلى المفاهيم والبراديغمات المهيمنة، ومساءلتها على ضوء العمل الميداني. وفي مرحلة تابعة مقابلة المعطيات الميدانية، المستقاة، مع الموروثات المعرفية التي أنتجت في الموضوع المدروس، سواء أنجزت هذه الموروثات من قبل غربيين أو أبناء البلد.

ليس غرضي في هذا المحور، العودة إلى منجز العلوم الاجتماعية في دراسة مجتمعات المنطقة، باعتماد مقاربة دراسة الحياة اليومية، بل ما يهمني هو العودة إلى السؤال الأساس؛ وهو هل يمكن لدراسة الحياة اليومية، كفرع من فروع العلوم الاجتماعية، أن يخترق فروعا أخرى داخل نفس هذه العلوم (السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا والتاريخ...)، وأن يكون بذلك مخرجا من مأزق الخضوع لتأثير المعارف المهيمنة عمومًا؟  

إن إنجاز أي عمل في العلوم الاجتماعية منعزل عن مناقشة الأدبيات السابقة، واقتراح منهج قابل للتعميم، يبقى عملا منقوصا في حقل العلوم الاجتماعية. لذلك لا يمكن لسوسيولوجيا الحياة اليومية أو سوسيولوجيا المُعاش، دون تفسير أو تأويل نظريين، أو وصف الظواهر والفاعلين المدروسين، على الأقل، ومقابلة ما لوحظ في الميدان مع التفسيرات أو التأويلات السابقة، أن يؤسس لسوسيولوجيا بديلة، مهما كانت مجالات وميادين تطبيقها.

يمكن لمقترب سوسيولوجيا الحياة اليومية أن يفيد في عملية تحرير المعرفة من الهيمنة، لكن بمساءلة دائمة للبرديغمات والمقاربات المعرفية، التي سبق استعمالها في دراسة المواضيع المدروسة. فالمزاوجة بين الميدان والنقد، وتوثيق الحياة اليومية بوعي نقدي ونظري، يمكنه أن يساهم في تجاوز الدراسات والمعارف المهيمنة، حتى تلك التي أنجزت ما بعد الاستعمار، لإنتاج معارف متجددة ومستمدة من التجربة الميدانية.

انعكاسات نظرية في الميدان

بعد 16 سنة من صدور كتاب الاستشراق، كتب إدوارد سعيد، في تذييل/مراجعة لفكرة الكتاب وردود الأفعال حوله، ويشير إلى تجارِب بعض الأعمال الفنية، التي قامت بإعادة النظر في الاستعمار، لتأسيس منجزات شكلية من خلال إعادة تمللك التجربة التاريخية للاستعمار (إدوارد، سعيد: 565).

إن التصور الذي سنقدم، انطلاقا من دراسة ميدان الحراك في السياق المغربي، يجعل من "النظرية المجذرة Grounded theory،" التي قدمت في مساهمات بحثية، حديثة، كحل لبناء علوم اجتماعية "عربية"، موضع مساءلة بدورها. فالتقابل بين الاستنباط والاستقراء في المناهج البحثية، يفرض على الباحث الميداني اتباع منهجية دون أخرى، كمية أو كيفية، الانطلاق من الإطار النظري وقراءة الأدبيات أو تركها لما بعد جمع البيانات والمعطيات في الميدان؟ والحال، أنه ليس هناك أي مانع لمزاوجة المنهجين معا. وبعبارة أدق، فإن الباحث مطالب بفحص النظريات والبراديغمات، التي حاولت تفسير أو تأويل الموضوع المبحوث، في الميدان، بمنطق تجريبي. وأيضا مزاوجة المناهج البحثية، الكمية والنوعية، في ذات الموضوع. فالخطية في اتباع منهجية دون أخرى، يجعل الباحث يستسلم لخطاطة تفسيرية محددة (كاتي شارماز، 2006: 12)، ليست بالضرورة مماثلة للواقع أو ما يعتقده، فعلا، الفاعلون المشاركون في الظاهرة المدروسة.

بالعودة، بتفكير انعكاسي، للميدان الذي قمت به بين سنوات 2011 و2018 حول الحركات الاحتجاجية في المغرب، يظهر قصور الإطار النظري للفعل الاحتجاجي، وأيضا الحركات الاجتماعية، في التجربة الميدانية للاحتجاجات التي عرفتها المنطقة عموما، وفي السياق المغربي على الأخص.

لقد بقي مشروع إعادة تملك التجربة المعرفية للكولونيالية، للأسف، غير واضح المعالم، في جل الكتابات النقدية التي اتجهت إلى نقد المعرفة الاستعمارية في العلوم الاجتماعية. فالمساهمة في نقاش "إعادة تملك المعرفة"، وإعادة التفكير في مناهج البحث العلمي، كانت ترتبط برفض أعمال باحثين أورو-أمريكيين، والتعليق عليها في مقالات نقدية وأبحاث تبتعد في غالبيتها عن الميدان، وتقابل المعرفة المستقاة، من قبل باحثين اصطفوا إلى جانب المستعمر، بميادين جديدة تأزِّم هذه المعرفة، بغربلتها وتحيينها لتحقيق التراكم المعرفي من طرف باحثين يدرسون بلدانهم، بوعي نقدي، يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الهوياتية، التي يمكن أن تجعل من الباحث "ابن البلد" أيضا مصنفا كآخر. (مقابلات: قروي/حضري؛ عربي/أمازيغي؛ مسلم/مسيحي؛ مسلم/يهودي؛ عربي/كردي...).

إن التجاذب البراديغماتية، خصوصا بين مؤيدي المنهج التاريخي، من جهة، وعلم الاجتماع التطبيقي من جهة أخرى، ظهر من جديد في سياق النقاش العمومي والأكاديمي، الذي واكب لحظات الحِراكات المغربية، حول طبيعة الحركات الاحتجاجية التي برزت ما بعد سنة 2011؛ حركة 20 فبراير، حراك الريف، حراك جرادة.. فالمؤرخ "المُؤدلج" انبرى للدفاع عن منهج التحقيب والتسلسل الزمني، لمقاربة عَلاقة المغاربة بالفعل الاحتجاجي، ليخلص أن مقاربة الباحث التاريخي للحركات الاجتماعية، بما فيما الاحتجاجية تكون بتحقيب التاريخ الاجتماعي. وبالتالي فجذور تحرك شباب 20 فبراير سنة 2011 يجد محركه التاريخي في تحرك ثورة دباغين مدينة فاس سنة 1873! (المصطفى بوعزيز، 2019). فبالرغْم من مشاركة المصطفى بوعزيز في النقاش حول الحركات الاحتجاجية، ونقده لتعريف آلان تورين للحركات الاحتجاجية، إلا أن إعادة التعريف الذي قدمه، لم تكن سوى تركيب لتعريف كل من آلان تورين (مفهوم التحرك الاجتماعي)، وتد روبيرت كور من خلال كتابه لماذا يتمرد البشر؟ (1970) عبر التركيز على مفهوم الحرمان النسبي. ليكون بذلك تعريف بوعزيز للحركات الاجتماعية كالآتي: "الحركة الاجتماعية تحرك جماعي وَسَط المجتمع، يتأسس على قاعدة حيف وشعور بالدونية، وينطلق بهدف رفع الغبن وجبر الضرر" (ص: 223). لكن عند كتابته حول حركة 20 فبراير، لم يقم بوعزيز بأي تحليل لمحرك الفعل الاحتجاجي للحركة، بل كان تحليل الباحث التاريخي بعيدا حتى عن التحديد المفاهيمي الذي قدمه في تعريفه، ليكون تحليلا ضيقا استعمل فيه عبارات سياسية مثل: "الحركة وضعت نفسها في الهامش، التهميش الذاتي، رموزها مقيدين بالجاذبية العمياء لمنطق ثنائي مخادع..." (المصطفى بوعزيز، 2019: 272-273)، كأنه يحلل ذاتا واحدة أو حزبا سياسيا موحدا! وليس حركة مفتوحة تجمع كل التناقضات المجتمعية داخلها.

بالعودة إلى المنتج البحثي، الذي قام بدراسة الحركات الاحتجاجية، منذ سنة 2011 حتى الآن، اتجه بعض الباحثين إلى محاولة تفسير "الفوَرات" الشعبية، التي عرفتها المنطقة، من زوايا تحليل مُغايرة. ففي حين أصر علماء النفس الاجتماعي إلى تفسير ما حدث بنظرية الفجائية في علم النفس (فتحي بنسلامة، 2011)، حاول البعض، تجريب النظريات المفسرة للفعل الاحتجاجي والحركات الاجتماعية في الميدان، لكن قليلون من حاولوا التفكير أو محاولة فهم ما يحدث في الميدان، والخروج عن نمط النظريات، التي فسرت بروز أو صعود الحركات الاحتجاجية، وكذلك منطق عملها، عبر تجاوز هذه النظريات بمعطيات ميدانية، وأيضا إعطاء الأهمية للفاعلين في الميدان، تتبع مساراتهم، واستجوابهم في المُدة الطويلة.

لقد حققت الحاجة إلى إعادة تملك المعارف، شوطا هاما في المجال الأدبي، ولا سيما في مجال إنتاج الرواية العربية. كذلك استطاع علم التاريخ أن يحقق تراكما معرفيا، فببروز جيل من المؤرخين من أبناء المنطقة، أعاد كتابة التاريخ بمناهج ومقاربات مختلفة عن الكتابة التاريخية التي اعتمدها المؤرخون الاستعماريون. لكن في العلوم الاجتماعية الأخرى: علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وأيضا العلوم السياسية، بقيت مسألة التخلص من التبعية المنهجية والمعرفية، عمليا، من خلال إنتاجات تُحقق التجاوز المعرفي، قليلة نسبيا، وفي غالبيتها تُعيد دراسة الظواهر وفق النماذج المنتجة في سياقات أخرى، لنحصل في النهاية على دراسات، كثيرة، تحاول التفسير بالإسقاط النظري، أكثر من إعطاء الأهمية للاختلافات التي يعرفها المجتمع المدروس.

انطلاقًا من عملي الميداني لدراسة حركة 20 فبراير، واكبت الملاحظة في الميدان، بقراءة النظريات المؤسسة للفعل الجماعي والحركات الاحتجاجية، وذلك لمحاولة إيجاد منظومة نظرية تفسر الحِراك في الميدان، وأيضا إعطاءه المعنى، أثناء مقابلاتي ودردشاتي مع نشطاء الحركة، بشكل مستمر وفي المدة الطويلة.

لدراسة منطق الفعل الاحتجاجي لدى نشطاء حركة 20 فبراير، جرّبت مختلف النظريات التي أثبتت صلابتها التفسيرية في سياقات مختلفة. من الاختيار العقلاني وفق النموذج الأولسوني (منصور أولسن 1932 - 1998) بمفارقته داخل الفعل الجماعي، انطلاقًا من مفهوم "free rider"، الذي يمكن ترجمته بـ “المتسللين"، الذي ظهرت محدوديته بشكل كامل في الميدان، بعدم قدرة خطاطته التفسيرية على تحليل الحركات المفتوحة جماهيريا. أيضا محدودية نظرية "الحرمان النسبي"، حسب ما قدمها تد روبيرت كور (1936 – 2017) في تفسير الحراكات المغربية، ومن بينها حركة 20 فبراير، فليس "للحرمان النسبي" مؤشر واضح ودقيق في فعل جميع من يشارك في الحراكات. فمن ذوبان مفهوم الحرمان في لحظات سياقية "حاسمة" مثل لحظة 20 فبراير 2011، التي شارك فيها "المقهور"، "المحروم نسبيا" وأيضا "الميسور". إلى تركيز المفهوم وتحويله إلى حرمان جماعي "مجرّد" ومحرك للاحتجاج، يستطيع عبره تحقيق عملية حشد المحتجين، بمختلف وضعيتهم الاجتماعية. وهو الشيء الذي ظهر بتركيز السيرورة النضالية لـ “حراك الريف" على "الحرمان الجمعي" كمطلب للحراك الاحتجاجي.

في سياق العمل الميداني، خصوصا في مرحلة الملاحظة بالمشاركة، والتي أيضا تمت مساءلتها في الميدان، خصوصا على مستوى شكل المشاركة ومداها، هل الاكتفاء بالمشاركة في الاحتجاجات، وكذلك الاجتماعات، دون المشاركة في اتخاذ القرار، أو مشاركة كاملة بما فيها من عناصر اتخاذ القرار والتصويت، والتي في النهاية أخذت شكل "مشاركة بالتدخل" خصوصا لمحاولة فهم منطق الاحتجاج في لحظات تبدو حاسمة في السيرورة الاحتجاجية.

للانفلات من مأزق إعادة تفسير الفعل الاحتجاجي لحركة 20 فبراير، بمنظورات النظريات الغربية أو فقط معاكستها، اخترت المنهجية الكمية، بعد إنجاز استمارة جمعت عناصرها في الميدان باستعمال تقنية الملاحظة بالمشاركة. ليتم بلورة استمارة نوعية، تتجه حصريا للنشطاء الذين شاركوا في السيرورة النضالية بكاملها، وأساسا في عملية التنظيم واتخاذ القرار.

وبذلك تم تحديد مواضيع استجواب النشطاء عبر تتبع مسارات الحركة في الميدان، والنقاشات وكذلك الصراعات التي كانت تدور بين مكوناتها، إلى مواضيع لها ارتباط مباشر بالفعل الاحتجاجي: كمسألة الثقة، الهوية الجماعية، المشاركة أو مقاطعة الانتخابات، والانتماءات الحزبية والسياسي (استمرارها أو وقفها)'.. لكن أيضا مع كل هذا، وبشكل أساسي، مزاوجة المنهجيات الكمية والكيفية، في تفسير وتتبع الحراكات، ورسم مسارات المشاركين في هذه الحراكات، وتتبع مواقفهم، بشكل استعادي، من أشكال الأفعال الاحتجاجية التي انخرطوا فيه، ومالات هاته المسارات.

في مرحلة ثانية، وكذلك في إطار الاهتمام البحثي بموضوع الفعل والانخراط النضالي، هناك عودة للميدان من أجل فهم إشكالية الانسحاب السياسي، لنشطاء حركة 20 فبراير من الأحزاب والتنظيمات السياسية التقليدية، وأيضا تحويل أو إعادة الانخراط في ديناميات اجتماعية مختلفة، حقوقية تدعم الهويات الفردانية، وكيف يمكن للانسحاب أن يفسر إعادة الانخراط في أشكال مختلفة (HIRSCHMAN, 1970)، من خلال العودة إلى الميدان وإنجاز مقابلات حول مسارات الناشطين النضالية بعد حراك 20 فبراير. (محمد سموني، 2023).

في هذا البحث، أقوم أيضا بمساءلة مستمرة للمفاهيم والنماذج النظرية التي تدرس مفهوم "وقف الانخراط"، Le désengagement في الميدان. فأول الملاحظات التي ظهرت بإجراء المقابلات الأولية، مع النشطاء الذين انسحبوا أو أوقفوا انخراطهم، أن الانسحاب السياسي لديهم يحمل أشكالا مختلفة ومتعددة، فلا يأخذ بالضرورة شكل الاستقالة المكتوبة من تنظيماتهم السياسية. بل هناك أشكال متعددة، يصفها النشطاء أنفسهم بـمفاهيم مختلفة عن وقف الانخراط أو الانسحاب، مثل الابتعاد التنظيمي، التوقف، ووضع المسافة.. وغيرها من العبارات التي تصف عملية الانسحاب أو الابتعاد السياسيين، بعبارات لا تحسم في علمية الانسحاب، بشكل كامل، لتضع لها صفات لا تدخل بالضرورة في الأدبيات، التي درست هذه الظاهرة، ووضعت لها تصنيفات. لذا يجعل من براديغمات مثل: الانسحاب l’exit أو وقف الانخراط désengagement محدودة التفسير لكل الارتباطات المتواجدة بين النشطاء والتنظيمات السياسية.

في تحليل وضعيات الابتعاد النضالي، تُظهر وضعية البين – بين محدودية التفسيرات النظرية لعملية الانسحاب والابتعاد في السياق المغربي. فيمكن لوضعية البين – بين، في السياق السياسي، أن تُصبِح مرتبة أو منزلة، تخول لها دور الوسيط بين الفاعلين السياسيين في لحظات المآزق السياسية. وفي هذه الحالة تعيش وضعية البينَ - بينَ حالة راحة، بعيدا عن وضعية القلق والعُبور (بنعبد العالي 2014، 119).

غير أن وضعية البينَ - بينَ لن تكون دوما وضعية راحة، بل وضعية قلق وتردد، تتراوح بين الرغبة في استمرار الانخراط الحزبي من عدمه، أو تحويل الانخراط إلى تنظيم جديد.

بعد زمن الحِراك، تكررت صيغة التَباعُد في سرد النشطاء، لوصف طبيعة انفصالهم عن التنظيمات السياسية. إذ لم يقدموا استقالاتهم ولم يحسموا عملية الانسحاب من التنظيم، وهي صيغة قابلة مبررة في حالات النشطاء الذين لم يتحملوا مسؤوليات حزبية في زمن الانتماء السياسي. غير أن الأمر يزداد تعقيدا بالنسبة للنشطاء الذين ابتعدوا، بدون تقديم استقالات، مع أنهم كانوا يتحملون مهمة حزبية في هياكل التنظيم السياسي.

أيضا خلال هذا البحث، جرَّبت الانتقال من منهجية كمية، أوضحت ارتفاع مؤشر وقف الانتماء السياسي السابق لنشطاء الحراك، إلى منهجية كيفية تحاول أيضا تتبع مسارات النشطاء، من الانخراط والانتماء السياسيين إلى وقف أو تغيير الانخراط في ديناميات أو تنظيمات احتجاجية، وذلك عبر إجراء مقابلات جديدة مع عينة من هؤلاء النشطاء، الذين ربطت معهم علاقة ثقة منذ حراك 20 فبراير، تهدف إلى رسم مسارات حيواتهم النضالية، بتقنية الحكي Récits de vie في مرحلة أولى، وكذلك في مرحلة ثانية تحديد عينة مصغرة، للمشاركة في تصوير فيلم سوسيولوجي، أحاول فيه تتبع مسارات 5 بروفايلات،  بالتركيز على سرد سياقات الابتعاد أو تحوُّل مساراتهم. النضالية بعد زمن الحراك السياسي.

الاحتجاج مفهوم مُنفلت؛ لذلك فإن استعمال المقاربات النظرية، التي نشأت في سياقات أوروبية خاصة، لدراسة الاحتجاجات أو الثورات، يجعل أغلبها يُعيد تفسير الحراكات الاحتجاجية، في السياق المغربي، وأيضا "العربي"، بتصنيفات وخطاطات جاهزة. وهو ما لا يتناسب، في حالات كثيرة، مع حركة الفعل الذي ينتج، في الميدان. فالحركات التي برزت، في الموجات المختلفة التي عرفتها المنطقة، انتفضت من أجل إعادة تملك السلطة أو هامش إضافي في الفضاء العمومي، من طرف مُهيمن. لذلك فعملية إعادة التملك من المفروض أن تكون سابقة على الفعل، على مستوى التنظير، أو على الأقل مواكبة لها، بمساءلة ولما لا نقض المفاهيم والنظريات المهيمنة في ميدان الحراك.

المراجع:

باقادر، أبو بكر وحسن رشيق. (2012). الأنثروبولوجيا في الوطن العربي. بيروت: حوارات دار الفكر المعاصر.

بوعزيز، المصطفى. (2019). الوطنيون المغاربة في القرن العشرين، 1873-1999. (جزأين). الدار البيضاء: إفريقيا الشرق.

حمودي، عبد الله. (2019). المسافة والتحليل: في صياغة أنثروبولوجيا عربية. الدار البيضاء: دار توبقال.

---------------. (2022). ما قبل الحداثة: اجتهادات في تصور اجتماعية عربية. الدار البيضاء: دار توبقال.

---------------. (2018). "العلوم الاجتماعية في العالم العربي: مقاربة الإنتاجات الصادرة باللّغة العربيّة (2000-2016)". المجلس العربي للعلوم الاجتماعية. تمت زيارة الصفحة في 3 آذار/مارس 2023.

. http://www.theacss.org/pages/arab-social-science-report-2017

الخطيبي، عبد الكبير. (2000). النقد المزدوج. الرباط: منشورات عكاظ.

سموني، محمد. (2020). "الفعل الاحتجاجي بالمغرب: مساهمة سوسيو سياسية لدراسة منطق الفعل الاحتجاجي لدى نشطاء حركة 20 فبراير". [أطروحة دكتوراه غير منشورة]. الدار البيضاء: جامعة الحسن الثاني.

-------------. (2024). بعد الانفصال : دراسة حول سيرورة الانفصال التنظيمي والتحوّل النضالي بعد حِراك 20 فبراير في المغرب. ورقة عمل (في طور النشر). بيروت: المجلس العربي للعلوم الاجتماعية.

العروي، عبد الله. (2006). عوائق التحديث. الرباط: منشورات اتحاد كتاب المغرب.

---------------. (2014). "في نقد الإيديولوجيا، حوار فكري مع عبد الله العروي". النهضة. العدد الثامن، ربيع-صيف 2014.

Bennani-Chraïbi, M. et M. Jeghllaly. (2012). La dynamique protestataire du Mouvement du 20 février à Casablanca, Revue française de science politique 62(5-6) : 867- 894.

Benslama, F. (2011). Soudain la révolution ! De la Tunisie au monde arabe : la signification d’un soulèvement. Paris : Denoël.

Charmaz, K. (2006). Constructing Grounded Theory: A Practical Guide through Qualitative Analysis. California: Sage Publications.

Fillieule, O (dir). (2005). Le Désengagement militant. Paris : Belin.

Goffman, E. (1973). La mise en scène de la vie quotidienne. Traduit de l’anglais par Alain Kihm. Paris : Minuit.

Hirschman, A. (1970). Exit, voice, and loyalty: responses to decline in firms, organizations, and states. Cambridge : Harvard University Press.

Laroui, A. (2021[1974]). La crise des intellectuels arabes, Traditionalisme ou historicisme ? Casablanca : Centre culturel du livre.

Maffesolli, M. (1979). La conquête du présent : Pour une sociologie de la vie quotidienne. Paris : PUF.

Mancur, O. (1978). Logique de l’action collective. Préface de Raymond Boudon. Traduit de l’anglais par Mario Levi. Paris : PUF.

Pascon, P. (1986). Courte visite dans la cuisine des Sciences humaines. Bulletin économique et social du Maroc 155-156 : 107-114.

Rachik, A. (2016). La Société contre L’État : Mouvements Sociaux et stratégie de la rue au Maroc. Casablanca : la croisée des chemins.

Rachik, H. (2016). L’esprit du terrain, Études anthropologiques au Maroc. Rabat : Centre Jacques-Berque.

Said, E. W. (2005[1978]). L’orientalisme : L'Orient crée par l'Occident. Paris : Seuil.

Tourain, A. (1993). La voix et le regard. Paris : Seuil.

شكر وتقدير

أتقدم بالشكر الجزيل لكل من فاضمة آيت موس، حسن رشيق، نور الدين الزاهي ومحفوظ السعيدي على ملاحظاتهم ومقترحاتهم لتثمين هذه الورقة وإغناءها.

[1] "تم تنفيذ هذهالمنشورة (بشكل جزئي) بدعم من المجلس العربي للعلوم الاجتماعية في إطار منحةمقدمة" من مؤسسة كارنيجي في نيويورك لبرنامج الزملاء الناشئين في دورتهالتاسعة. إن التصريحات والآراء الواردة هنا تكون من مسؤولية المؤلف وحده".