طقوس الاستمطار في زمن التغيرات المناخية: مقاربة مكانية
امال بوغروس، "معهد استكهولمالدولي لأبحاث السلام،"
يتناول المقال بالدرس والتحليل طقسالاستمطار، أو ما يعرف ب "تلغجنة" كما تُمارسه المجتمعات المحلية بشمال افريقيا،حينما لا تجُود السماء بالمطر. يتجلى الطقس في موكب ينطلقُ ليجولَ في الفضاء العام،حيث يقوم الأفراد بحركات ذات أبعاد رمزية، في محاكاة للأسطورة الأمازيغية الموسومةب "تيسليت نانزار" (أو عروس أنزار، بمعنى عروس المطر). تستند المقالةالى مفهوم "المكان الحيوي المعاش" وهو صياغة تصورية لهنري لوفيبفر، لفهمالكيفية التي بها يتمكن الموكبُ الاحتفالي "لتلغنجة" من جعل الأسطورةتلج الفضاء العام لتُصبح تعبيرا ملموسا، وان بشكل عابر، عن الذاكرة المشتركة والمُتخيلالجَماعي. في الأوقات العصيبة التي تطغى فيها الحيرة بسبب شح المياه وعدم انتظامالتساقطات المطرية، وما يتبعهما من تحديات جمة، ذات علاقة بالتغيرات المناخية،تصير ممارسة الاستمطار أكثر من مجرد استعراض للعادات والتقاليد الفولكلوريةالمحلية، بل تضحى فعلا سياسيا، في شكله اللاسياسي، ليس فحسب بالنظر الى ما يَنطويعليه من آمال ومطالب، بل كذلك لما يُشير اليه من هشاشة وعجز، كما يوحي بذلك التوسلللقوى الفوقطبيعية من أجل التدخل للغوث.
مقدمة:
دأب أهالي المنطقة المغاربية علىمُمارسة طقوس الاستمطار، كلما قلَّت التساقطات المطرية أو جاءت بشكل غير منتظم.غير أن تلك الممارسات تتخذ معاني مُتجددة ذات أبعاد سياسية في زمن التغيراتالمناخية الكبرى. لقد باتت التغيرات المناخية تُشكل تهديدا حقيقيا لبلدان ومجتمعاتافريقيا الشمالية، ذلك لأن الظواهر المناخية القاسية، من قبيل الحرارة المفرطة،واستمرار نوبات الجفاف، وكثرة الفيضانات صارت ظواهر مُتواترة. ففي سنة 2022، علىسبيل المثال، شَهد المغرب إحدى أسوء حالات الجفاف على الاطلاق خلال الأربعة عقودالأخيرة، بحيث انخفض منسوب المياه المُخزَّنة في السدود الى أدنى مستوياتها[i]. هذا، وذكر تقرير صدر مؤخراعن البنك العالمي بأن المغرب يُعاني من "اجهاد مائي بنيوي" (البنكالعالمي، 2022)، مما حَدَى بالسلطات المغربية بإصدار أوامر بالترشيد الصارمللموارد المائية.
وبخلاف مثل هاته الاستجابات ذات الطابعالسياسي أو التقني، تنصرف بعض المجتمعات القروية إلى مُمارسة طُقوس الاستمطار التيتُعرف ب"تلغنجة" (وهي كلمة أمازيغية[ii] تعني "المغرفةالخشبية") للتصدي والتعامل مع موجات الجفاف وانعدام الانتظام في التساقطاتالمطرية. شاعت ممارسة هذا الطقس بالمغرب والجزائر، لكن قد يصادف بتونس أيضا[iii]. ويتألف طقس"تلغجنة" من ابتهالات وصلوات استسقاء تحاكي من حيث الأداء، الأسطورةالأمازيغية "تيسليت نانزار" (أو عروس أنزار—بمعنى عروس المطر). ولا عجبفي ان ينبري الناس الى ممارسة الطُّقوس والمراسيم التقليدية، كلما حلت بهم الكوارثالطبيعية أو قست عليهم الظروف المناخية. فغالبا ما يلجأ الناس الى ممارسات تقليديةمُستوحاة من معارف السكان الأصليين ودياناتهم، والتي تشكل المُتخيل الجماعي الذييضم سبل التعامل مع الحيرة أو القلق الذي غالبا ما ينتاب الأهالي جراء التقلباتالمناخية (نياو، 2017).
يتموقع المقال في تقاطع ما بينالاثنوغرافية والسياسة البيئية، ويتبنى مقاربة المكان لتسليط الضوء على الأبعادالرمزية والسياسية لطقس قد تبدو ممارسته لا سياسية، للوهلة الأولى. هذا، وغالبا ماتُستبعد طقوس الاستمطار (مثل، تلنغجة) من نطاق اهتمام الدارسين بدعوى انها لا تعدوان تكون ممارسة فولكلورية. غير أن المقال يُحاج بأن اكتساح الممارسة للفضاء العاميفيد بأن الطقس أكبر من أن يُنظر اليه على أنه مظهر من مظاهر التقاليد المحليةفحسب، وبخاصة في أوقات عدم اليقين والحيرة التي تُؤجِّجُهما مخاطر التغيراتالمناخية وتحدياتها. وعليه، يمكن النظر الى ممارسة طقوس الاستمطار باعتبارها أعمالاسياسية، وان بدت في شكلها غير السياسي، ذلك لأنها تَبسط وتُعبر عن آمال واحتياجاتومطالب الافراد والجماعات، كما أنها تكشف عن مستويات عالية من الهشاشة، والضعفواليأس جعلت الناس تلجأ الى قوى طبيعية أو إلاهية خارقة، طلبًا للغيث والغوث.
ومن خلال التركيز على البعد المكاني لطقوس الاستمطار،يسعى المقال لرصد تصورات الناس للفضاء والبيئة المادية وذلك بالتقاط الرسائلالمُبلَّغة، والكشف عن الهويات المقصودة، وكذا التخيلات الجماعية التي يتم الإحالةاليها وحشدها. وكل هذا يتجلى أو يتخذ شكلا ملموسا في الفضاء العام، اثناء أداءطقوس الاستمطار.
يقف المقال بداية عند طقس"تلغجنة" مُقدما وصفا له، كما يُمارس في المغرب ومناطق أخرى بشمالافريقيا. ثم، بالاستناد الى مقاربة مكانية مُستوحاة من "الفضاء الحيويالمعاش"—وهو تصور مفاهيمي صاغه هنري لوفيبفر—يسعى المقال لفهم السبل التييتملك بها الناس الفضاء العام عبر الموكب الاحتفالي ل"تلغجنة" وفسحالمجال للأسطورة لكي تلج الفضاء العام وتصبح تجسيدا مرئيا وتعبيرا ملموسا—وإن بشكلعابر—عن الذاكرة الجماعية والمُتخيل المُشترك. ينبري المقال، أخيرا، الى استكشافالأبعاد السياسية التي يكتسيها اجتياح طقس الاستمطار للفضاء العام.
"تلغجنة"و"انزار": الآثار الحية لمُمارسات ومُعتقدات بربرية ضاربة في القدم:
ان مسألة وجود أو عدم وجود أساطيرأمازيغية بحتة، مقرُونة بنظرية لنشأة الكون، مسألة مُتنازع عليها (بحسب الباحث ابنعمارة، 2022). وكان الباحث هنري باسيت (1920)، المتخصص في الثقافة البربرية، يصرعلى أن البرابرة لا يمتلكون أساطير بعينها، بيد أن لديهم العديد من الطقوس الخاصةبهم (ابروس وشاكر، 2004). وفي المقابل، يرى باحثون آخرون بأن التقاليد والطقوسالتي لازالت تُمارس الى يومنا هذا، تشكل آثارا لنُظم مُعتقدات قديمة سبقت مجيءالإسلام والديانات التوحيدية الأخرى. وبحكم الطبيعة الشفهية للثقافة الأمازيغية،قد يتعذر تسوية النقاش القائم بهذا الصدد، مادامت الروايات الشفوية هي السبيلالوحيد للوصول إلى رُؤى وتجارب البرابرة في العالم. لقد قَدَّم هنري جينفوا (1978)عَرضًا مُستفيضا لهذه الأسطورة، بناءاً على روايات كان قد جمعها أثناء عملهالميداني في أوساط أهالي "أيت زيكي،" بمنطقة القبائل بالجزائر. وفيكتابه Mots et Choses Berbères (كلمات وأشياء بربرية) الذي صدر عام 1920، قدم اميللاوست احد أقدم الاوصاف وأوفاها تفصيلا لطقوس "تلغجنة" في المغرب. وكانتهذه الروايات والنصوص المُبكِّرة التي تدور حول أسطورة "تسليت نانزار"وطقوس "تلغجنة" جزءا من مجموعة من الدراسات الاثنوغرافية المرتبطة بالحُكمالاستعماري بشمال افريقيا. ومن المُسَلَّم به أن المعرفة المُكتسبة في هذا الإطارتحمل في طَيَّاتها الطابع الاستشراقي للمشروع الاستعماري. ومع ذلك، وباعتبارهاالروايات المكتوبة والمفصلة الوحيدة المتاحة، يُمكن اعتمادُها كمصدر مُفيد، لاسيماإذا ما تم استعمالها مَقرُونة بأحدث الدراسات والملاحظات الاثنوغرافية ذات الصلة.
وبحسب الأسطورة، كما يرويها جينفوا، حدثأن وقع أنزار في حب فتاة جميلة كانت قد اعتادت على الاستحمام بالنهر ورغب فيالزواج بها. الا أن أنزار كان كلما نزل من السماء ودَنَا من الفتاة، كانت تتراجعللوراء وتصده. ولما استجمع أنزار عزمه، مفصحا لها عما في قلبه من عشق، فوجئباعتراض الفتاة وتعففها، خشية سوء ظن قومها وكثرة القيل والقال. استشاط أنزار غضباواختفى فجأة عن الأنظار، وبإختفائه، نَضب النهر وغَارت مياهه، فأجهشت الفتاةبالبكاء، وخلعت ثيابها ثم توسلت لأنزار بالعودة. أبشر أنزار، وماهي الا بُرهة حتىعاد كالبرق ليحتضن الفتاة وينطلق بها بعيدا. عادت المياه على إثر ذلك لمجرى النهرواكتست الأرض بخضرة الخصب (جينيفوا، 1978).
تُمارس طقوس "تلغجنة" منذ زمنبعيد قبل موسم الحرث، مع وجود بعض الاختلافات بحسب تباين الجهات والجماعات(جيلارد، 2006). وتتجلى طقوس ومراسيم "تلغجنة" في الْبَاسِ أزياء لمَغَارِفَخشبية وتنميقها لكي تتحول الى دمى جميلة، تُمثِّلُ العروس "تيسليت"، قبلالانطلاق لاستعراضها في الازقة والشوارع. ويتكون الموكب من النسوة والصبية أساسا،يجوبون الأزقة وهم يغنون ويصيحون بتراتيل من أجل استنزال المطر. ومع تَقَدُّمِالموكب، يتم جمع الصدقات والتبرعات لإعداد وجبة جَمَاعِية يتَشَارُكها الجميع.وبالموازاة مع ذلك، تُرشُّ الدمى بالماء. وفي نهاية الحفل، غالبا ما يتم تَفكيكالدمى أو تَهشيمها. مما لا شك فيه أن طقوس "تلغجنة" تعج بالمعانيوالرمزية. وهكذا، تشير بعض التفسيرات، على سبيل المثال، الى الايحاءات الجنسيةللطقوس، كَما تُوحي بذلك المِغرفة الخَشبية (المُجَسِّدَة للعروس) والتي ترتويبمياه أنزار الواهبة للحياة، بنفس الطريقة التي يُخصِّب بها المطر الأرض لتذب فيهاالحياة وتُنبت العشب والنبات المختلف (كامبس وشاكر، 1989).
وتعتبر مُعظم الممارسات الطقوسية المُعاصرةمزيجا يَجمع ما بين الأسطورة البربرية وعناصر خطابية إسلامية، حيث أن الأناشيدوالأدعية صارت مُوجَّهة لله أما الوجبة الجماعية فيُراد منها أن تكون صدقة إسلاميةخالصة. وفي بعض الأحيان، تتجلى أسْلَمة الطقوس في التجوال بالدمى والقيام بزيارة مَقَاماتالمُرابطين وأضرحة الأولياء الصالحين، طلبا في بَركَتهم أو شَفَاعتهم ورَغْبَة فيالعناية الربانية (حمودة، 2016). ومن أهم العناصر الخطابية هنا، التضرع لله بأن يَبسُطرحمته "من أجل الأطفال والصغار، والحيوانات البكمة" على اعتبار أنهامخلوقات ترمز للبراءة والضعف. وخلاصة القول، فإن مراسيم "تلغجنة"وممارستها، تتشكل من عناصر وتمثلات ذات أبعاد دينية، وروحية، ورمزية. وقد تتبادر للذهن أسئلة بخصوص التماسك المنطقي لهذهالتمثلات وحول مدى وعي المشاركين في الطقوس بأصول ومعاني مُمارساتهم، فضلا عنأسئلة أخرى تتعلق بمدى استناد الطقوس الى الحقيقة أم الى محض الخيال. كل هذهالأسئلة، على وجاهتها، لاتهم. ما يَهمُّ هو أن ممارسة الطقوس يُعتبر جزءا منالذاكرة الجماعية للأهالي، تنتقل عبر الأجيال، من خلال حكايات "يرويها المرءمن أجل توجيه نفسه في هذا العالم." (أسمان، 2011، ص. 59).
التوطن بالفضاء من خلالممارسة الطقوس
الطقوس وسيلة للاستقرار بالفضاء وتملكه،وغالبا ما يُفهم الفضاء على أنه البيئة المادية و مجال الأنشطة البشرية والعلاقاتالاجتماعية، إلا أن هذه النظرة المُتحجرة تُميز بشكل صارم ما بين البيئة المادية،من جهة، والنشاط البشري، من جهة أخرى، من دون اعارة أي اهتمام إلى التفاعلات ما بينالمجالين، غير أن فهم أكثر دينامية للفضاء يُركِّز أكثر على الطبيعة العلائقية والتأسيس المتبادل للفضاء وكذا العلاقاتالاجتماعية التي يُتيحها و يدعمها. ويتم ذلك عبر دراسة الكيفية التي يتم بواسطتهاانشاء الفضاء وتشكيله من خلال الممارسات والتفاعلات الاجتماعية (ماسي، 2005). وكماتقول ماسي بهذا الصدد: "إذا كان الزمن يتكشف كتغيير جَارٍ، فإن الفضاء يتكشفكتفاعل حَاصِل." (ص. 61). وإذا ما فُهم الفضاء كشيء تم إنشاؤه من خلالتفاعلات، فإن من شأن هذا الفهم أن يكشف لنا كيفية انتاجه بطرق شتى، تضم مستوياتمتعددة ومُتساكنة من المعاني، تُوفِّر سُبلا مختلفة للإحلال به وتملكه.
وتبرز هذه المقاربة الأنواع المختلفةللمساحات الاجتماعية التي يتم انتاجها وتحقيقها أثناء ممارسة الطقوس وأداءمراسيمها. ويمكن اعتبار نظرية "هنري لوفيبفر" القائمة على ثالوث يتكونمن فضاء مُدرَك وفضاء مُتصوَّر وفضاء مُعَاش أداة تحليلية مفيدة، ذلك لأنها تساعدعلى فهم الطقوس في شِقَّيها، الزماني والمكاني، فالطقوس لا تُمارس في فضاء ماديمعين فحسب، بل تنتج وتكشف عن فضاءات أخرى، تتجلى في المعاني والرموز المتراكبة.وبحسب لوفيبفر، "فيما يُشير الفضاء المدرك الى الفضاء المتجسد، المعقول،والملموس، بشكل مباشر،" (روجرز، 2002، ص 29) يُحيل الفضاء المُتصور الىالأفكار والتمثلات والخطابات المنشورة من أجل تصور فضاء معين. أما الفضاء المُعاشفهو "الفضاء كما يُعَاش مباشرة من خلال الصور والرسوم والرموز المرتبطة به،وبالتالي، فهو فضاء يخص "السكان" و"المستعملين" ... وهذا هوالفضاء الذي يسعى الخيال إلى تغييره وتملكه. كما أنه يتراكب مع الفضاء المادي ويَستعملأغراضه بشكل رمزي" (لوفيبفر، 1991، ص. 39). وباعتباره مجالا للتجربة الحية،لا يمكن فصله عن الفضاء المُدرك والفضاء المُتصور، إلا أنه يُركِّز بصفة خاصة علىتجارب الناس أثناء استغراقهم أو مشاركتهم في حدث مكاني، بما في ذلك ممارسة الطقوس.
وفي هذا الشق تحديدا، فإن الفضاء المُعاش يسمحللناظر من فهم طريقة تضافر ممارسات من قبيل الحركات، والأنشطة، والإيماءات،والأهازيج والترانيم، فضلا عن الرموز المحددة التي يتم تعبئتها من أجل خلق"فضاء طقوسي" مُعين يكون ميدانا لاستعراض سرديات بعينها، والتعبير عنالمُخيلة الجماعية، بل وتقديم تَصوُّر كوني مُتكامل، مع إضفاء الحياة عن كل هاتهالمكونات والمراسيم. وبهذا تكون الطقوس بمثابة انشاء للفضاء، اذ تمده بمعانيمحددة، كما تحدد مجاله، وتفصله عن باقي المساحات الأخرى، سواء بصفة دائمة (كما هوالحال عندما يتعلق الأمر بخلق أمكنة مقدسة، مثلا) أو بصفة مؤقتة (كما يحدث عنداستخدام الفضاءات العامة لإقامة المراسيم، والاحتفالات، والمواكب الطقوسيةالأخرى). وفي غضون ذلك، تساهم الطقوس في ابراز هويات المشاركين وجوانب من شخصياتهموجعلها بادية للعيان على المستوى الفضائي. وبعبارة أخرى، تقوم الممارسات الطقوسيةبخلق الفضاء وتنظيمه، اعتمادا على مجموعة من الرموز والتمثلات التي لا تستحضر رؤىونظرات معينة للعالم فحسب، بل تُبلغ رسائل مُعينة صادرة عن المشاركين في أداءمراسيم الطقوس.
تملك الفضاء: طقوسالاستمطار في زمن التغيرات المناخية
في سياق تُهيمن عليه المعتقداتوالممارسات الإسلامية التقليدية بشكل كبير، يمثل اكتساح طقوس الاستمطار المعروفة ب"تلغجنة" للفضاء العام، حينًا بعد حينٍ، تَملُّكا للفضاء بحيث تبادرالتصورات والتمثلات الاجتماعية والثقافية الى تحويل الفضاء، بشكل رمزي، وإن بصفةمؤقتة، الى فضاء يعُجُّ بالأساطير والمعتقدات الضاربة في القدم. وهكذا يصبح الفضاءالعام، خلال المدة الزمنية المُخصَّصة لأداء الطقوس، مأهولا بشخصيات بربريةأسطورية بمعية تلة من الآلهة. وفي فضاء على مثل هذا الحال، تُعتبر الممارسات الطقوسيةوسيلة لتهدئة واغراء أحوال الطقس، كما هي مُجَسَّدة في الشخصية الأسطورية، أنزار،من خلال إهدائه عَرُوسَه، على أمل ارضائه، وبالتالي استنزال المطر لسقي الأراضيلكي تُؤتي الخصب على أشكاله.
وباعتبارها ممارسات ميدانية لأسطورة"تيسليت نانزار"، فإن طقوس "تلغجنة" تبدو وكأنها تزيح منالمركز كل المعتقدات والممارسات الإسلاميةالتقليدية، بما في ذلك صلاة الاستسقاء التي تقام عادة في المساجد والمصلات، وبأمرمن السلطات المؤسساتية، طلبا في نزول الغيث في أوقات الجفاف والجدب. كما يكشف أداءطقس "تلغجنة" عن وجود طبقات متعددة لمعتقدات، وأفكار، ورؤى للعالمتتعايش في كنف ثقافة مجتمع معين، تساعد على صياغة تصورات الناس للفضاء وتلعب دورالوسيط في علاقة الناس ببيئتهم المادية. كل هذه الطقوس التي تُمارس في الفضاء العامتُفيد بأن "تلغجنة" تُشكل مكونا من ضمن مكونات مراسيم وتقاليد الاستمطاربالمغرب، وبأن المعتقدات الإسلامية التقليدية تشكل بِنية طبقية تنطوي على عدد كبيرمن المعتقدات والتمثلات (تشمل المعتقدات البربرية بنفسها) والتي تشكل الذاكرةالجماعية للأهالي. وهو تُراث ينتقل من جيل لآخر مع توالي السنين.
وفي الوقت الحاضر، وخلال أدائهم لطقوس"تلغجنة" يمزج المشاركون، غالبا من دون شعور أو قصد، بعض العناصروالمرجعيات الإسلامية، مُحدثين بذلك نوعا من الانطماس ما بين المركز والهامش، ومابين الممارسات التقليدية وغير التقليدية. ويشير هذا المزيج إلى الطابع الانتقائيللثقافة والفضاء المُعاش، "الذي بات يزخر بالتناقضات والمتضاداتالجلية"، مُبددا بذلك الانقسامات الصارخة والتمايُزات الثنائية بين المركزوالهامش، وبين الزمان والمكان، وبين الطبيعة والثقافة، وبين التقليدي وغيرالتقليدي، وبين المقدس والدنيوي (روجيرز، 2002، ص. 37).
وإذا ما نظر المرء إلى"تلغجنة" من زاوية الفضاء المُعاش، سيتأكد من أن طقس الاستمطار أكبروأهم من يعتبر مُجرد ممارسة شاذة أو حدث لا صلة له بالحياة العصرية، خلا طابعهالفولكلوري (والجمالي). وعلى الأصح، فإن طقوس ومراسيم "تلغجنة" وسائللتملك للفضاء وإزاحة الستار عن البُنى الرمزية والتصورات الجماعية المشتركة التيتشكل الطبقة السوسيوثقافية القاعدية، وهي أصلا الطبقة التي تَشِي بالكثير حولالطرق التي تتم بها تجربة الفضاء العام. وبنفس المناسبة، تنقل الطقوس المذكورةكذلك رسائل مُحددة يتمحور فَحْوَاهَا حول علاقة الأهالي ببيئتهم في ظل نُدرةالمياه وعدم انتظام التساقطات المطرية، وهذا أمر يجد صداه الواسع على الصعيدالعالمي، في سياق القلق المتنامي حيال التغيرات المناخية وعواقبها.
ويُعدُّ التوطن وتملك الفضاء، من خلالتحركات الموكب، مكونا أساسيا لطقس "تلغجنة". وبحسب جانوسيك (2016)،"فالانطلاق بالموكب، يعني التحرك برفقة الآخرين والمُضِيَ قُدما بصفة منتظمةومتزامنة، صوب وجهة مقصودة. فالموكب إذن أداء جماعي مُنتظم ومُوجه بعناية، مَسرحُههو الفضاء العام." (ص. 4). ولعل ما يُحدِّدُ سبيل المشاركين لتملك الفضاء هوأدائهم الجماعي، ومقاصدهم المشتركة، وكذا معتقداتهم الدارجة، فيما تنتج كل العناصرالاستعراضية والمسرحية تجربة حسية وعاطفية إزاء ذلك الفضاء. ويعتقد الباحث غائيلريدو (2019)، استنادا الى المواكب الدينية، على الخصوص، بأن السمة البارزة للمواكبهي العلاقة الجدلية القائمة بين العناصر التالية: المعاني، والعواطف، والدين،والفضاء العام." وإسوة بما سلف ذكره، فإن المشاركين في الموكب الطقوسي الذييُحيي الأسطورة البربرية المعروفة ب"تيسليت نانزار" يشكلون جزءا أساسيامن التجربة الحسية التي تتضافر الدعوات، والاناشيد، والترانيم، والموسيقى، وما الىذلك، في انتاجها. وهنالك مجموعة من العواطف والاحاسيس التي تشكل موكب الاستمطار أوتتمخض عنه، وتتراوح ما بين اليأس، والضعف، والقلق، من جهة، والرجاء، والتقوىوالايمان بأن ربا رحيما سَيسْتجيبُ حتما للدعوات، من جهة أخرى.
وفضلا عن كشف الإطارات الاجتماعيةوالثقافية المتعددة التي تؤسس لعلاقات الأهالي ببيئتهم، فإن اعتماد على المقاربةالمكانية، يُسعفنا في فهم الكيفية التي تتجلى بها الاحاسيس والعواطف الصادرة عنتلك العلاقات في الفضاء العام، من خلال تحركات وأنشطة الموكب الاستعراضي. وبعبارةأخرى، فإن الشك والقلق الذي ينتاب الناس في أوقات الجفاف وانعدام الأمان جراءالتغيرات المناخية يُصبح ماثلا للعيان بعدما كان متواريا عن الأنظار. ويبدو وكأنالمشاركين في الطقوس قد اتخذوا لأنفسهم مكانا للتعبير عن مخاوفهم وقلقهم بشأنالتأثيرات السلبية للظروف المناخية القاسية على مصادر رزقهم وسبل عيشهم. وإن صحقول جانوسيك (2016) بما يفيد بأن "الطقوس هي، في المقام الأول، وسيلة لإثارةالانتباه" (ص. 7)، فإن إحلال الأهالي بالفضاء العام أمر مهم، ذلك لأنه يسترعىالانتباه لمضانك الناس جراء توالي الجفاف وعدم انتظام التساقطات المطرية.
وعلى الرغم من أوجه الاختلاف الواضحة مابين الطقوس التقليدية للاستمطار، من قبيل "تلغجنة"، واستراتيجيات التكيفوتخفيف حدة التأثيرات السلبية، التي ترتبط بالخطاب العالمي حول التغيرات المناخية،إلا أنها تكتسي أهمية كبرى لسببين، أولا، قد تبدو طقوس "تلغجنة" مجردتجليات فولكلورية تقليدية، إلا أنها تمثل آلية للتخفيف من وقع الضغوطات التي يعانيمنها الأفراد و الجماعات، بسبب انعدام الأمان المقرون بانعدام اليقين حيالالتغيرات المناخية وتبعاتها. ثانيا، يمكن اعتبار طقوس الاستمطار كأعمال سياسية، تحديدالكون المراسيم تكتسي طابعا لا سياسيا.ذلك لأن المشاركين لا يلجؤون للدولة طلبا للمساعدة في الولوج الى مصادر المياه.فندرة المياه هنا لا تعزى الى سياسات تدبير المياه أو الى قصور في تنفيذ سياساتتستهدف تعزيز القدرة على التحمل والتكيف مع التغيرات المناخية.[iv] بل بالأحرى، تشي طقوسالاستمطار بأن الإحساس بالضعف والعجز قد بلغ حدا جعل الأهالي يستغيثون مباشرةبالقوى الربانية والفوقطبيعية. وكما أشار كل من هيموندو وجولوبينوف (2002)،"حينما تتأخر الأمطار أو تتساقط بشكل غير منتظم، فإن المحاصيل الزراعيةالمنتظرة تتعرض للخطر، مما يتسبب، بل يؤجج القلق الذي ينتاب الناس, وحده التعلقالطقوسي العميق و المتواصل بالقوى التي لها سلطة على عناصر الطبيعة كفيل بأن يبددالإحساس بعدم اليقين." (ص. 254). وحتى عندما يعزى انحسار المطر وتوالي الجفافالى التغيرات المناخية، فإن الجماعات لا تتوقع الكثير من الدولة والجهات الرسمية،وبخاصة فيما يتعلق بإدارة المخاطر المناخية. وبهذا الصدد لا يمكن اعتبار مقاصدطقوس الاستمطار بمثابة عمل سياسي، لأنها لا تتوسل الى الدولة، بل الى قوى ربانيةخارقة.
غير أنه وفي سياق تنامي المخاطروالتحديات المتعلقة بالتغيرات المناخية، تكتسي طقوس الاستمطار هذه معاني وابعادسياسية، ذلك لأنها بفعل تملكها للفضاء وتحويله، تُلفت الأنظار للمشاق الناجمة عنالجفاف والجدب بفعل عدم انتظام التساقطات. هذا وقد وصفت آنا أرندت الفضاء العام بأنه"مجال المظاهر" رابطة بذلك الصلة بين ما هو سياسي وما يستهدف المظاهروالظهور العلني. وعلى الرغم من كون "تلغجنة" لا تتطابق تماما مع التوصيفالذي قدمته أرندت باعتبار السياسة كفعل وخطاب – و بالفعل ليسالمقصود منها أن تكون سياسية على الإطلاق – فإن "تلغجنة" يظل سياسيا بشكل"أرندتي" لافت. وقد يعتبر المشاركون في طقوس "تلغجنة" أنهامجرد ممارسات لا سياسية، إلا أنها ذات أبعاد سياسية بالنظر إلى الفعل الجماعيالمتسق والمتناغم الذي يبرز وجود المشاركين في الميدان ويسلط الضوء على هشاشةأوضاعهم وعجزهم، وبهذا يتسنى للجميع "رؤية كل ما يجول في هذا الفضاءالمستنير، وكيف يتم الدفع بالكل الى دائرة الاهتمام المشترك." (كانوفان،1985، ص. 618).
للمرء أن يعتبر الموكب الذي يجوب الفضاءالعام بمناسبة "تلغجنة" بمثابة ظاهرة سياسية، غير مقصودة تومئ الىالمشاق المحتملة والقلق المتنامي الناجم عن إحساس بالمخاطر المناخية المداهمة.ويشير إيفانس بهذا الصدد إلى أوجه التشابه ما بين المواكب الاستعراضيةوالاحتجاجات، بحجة أن المواكب اليوم، غالبا ما تكون دوافعها سياسية، كما هو الحالمثلا، بالنسبة للاحتجاجات والمظاهرات التي تنطلق لمناهضة اللامساواة الاقتصادية،أو للفت الانتباه لعواقب التغيرات المناخية، أو لرفض سياسة حكومية معينة. ومع ذلك،تبقى المواكب مظهرا من الطقوس الجماعية التي تستحدث التضامن." (ص. iv). لا مراءأن طقوس الاستمطار تعبر، في المقام الأول، عن الإحساس بانعدام الأمان، والمعاناة من المضانك الناجمة عن ندرة التساقطاتالمطرية والجفاف و ما يصاحبهما من جدب، هي كذلك آلية تساعد الجماعات المتضررة علىمجاراة المحن، هذا فضلا عن كونها مؤشرا على الهشاشة في زمن التغيرات المناخية(شايفر، 2017). كما يمكن اعتبار الطقوس عملا سياسيا غير مقصود لكن ذا أهميةملحوظة، لاسيما في ظل المخاوف العالمية المتنامية بشأن العواقب الوخيمة للتغيراتالمناخية.
خاتمة:
بالاعتماد على مقاربة مركزها المكان،استكشف هذا المقال أهمية طقوس الاستمطار في زمن التغيرات المناخية، وذلك من خلال "تلغجنة"كما يمارسها الأهالي بشمال افريقيا. وهي تجسيد وأداء فعلي لأسطورة "تيسليتنانزار". بتعبئتها لمجموعة من الرموز والتمثلات، والرؤى للعالم، تعمل الطقوسعلى انتاج وتحويل الفضاء العام، وبالتالي، فهي لا تكشف على تجارب الناس المتعددةالطبقات والأوجه فحسب، بل تساهم في إغنائها. في الأوقات التي ينعدم فيها اليقينبفعل التغيرات المناخية القاسية، يصير أداء مراسيم الاستمطار الوسيلة المتاحةللناس للتواصل مع البيئة التي تؤويهم ولتدبير علاقاتهم بالأرض، من خلال التوسلللسماء عساها أن تجود بنعمها ومناشدة القوى الفوقطبيعية من أجل التدخل للغوث. هذا،وبالاستناد إلى مفهوم "الفضاء المعاش" كما صاغه لوفيبفر، يبين المقالكيف يسعف النظر الى ممارسة "تلغجنة" من الزاوية المكانية في كشف الابعادوالآثار المترتبة عن حدث قد يبدو، لأول وهلة، بأنه حدث معزول على مستوى الفضاءالعام. وبفضل هذه المقاربة المكانية، يَتيسَّر فهم الطرق التي بها تشكل البنياتالرمزية طبقات سوسيوثقافية مُتساكنة تؤسس للكيفية التي تتم بها تجربة ومجاراةالفضاء. كما تسمح المقاربة المذكورة بفهم السبل التي تبرز بها الطقوس الهشاشةوانعدام الإحساس بالأمان، كما تكابده الجماعات في أوج مواجهتها لآفة الجفاف وشُحِّالمياه. ويكتسي كل هذا مغزى سياسيا بليغا، وبخاصة في سياق المخاوف المتنامية إزاءالمخاطر والتحديات ذات الصلة بالتغيرات المناخية.